على الرغم من شبه الإجماع الدوليّ الذي ظهر في جلسة الهيئة العمومية للأمم المتّحدة، مع إعلان 142 دولة تبنّيها للورقة السعوديّة – الفرنسيّة المعروفة باسم “إعلان نيويورك” المتعلّقة بحلّ الدّولتين، الفلسطينية والإسرائيليّة، قرّرت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة مقاطعة الجلسة مفضّلة أن لا تكون ضمن الموقّعين على هذا الإعلان، ولا حتّى ضمن الرافضين له إلى جانب إسرائيل والولايات المتّحدة الأميركيّة.
إذا ما كان قرار الغياب مساوياً للرفض في أحد أبعاده، فإنّ طهران أكّدت من خلال هذا الموقف التزامها الاقتراح الذي سبق أن قدّمته أمام الأمم المتّحدة مطلع الألفيّة الثالثة، والذي يلخّص رؤية المرشد الأعلى الداعية إلى إجراء استفتاء شعبيّ يشارك فيه السكّان الأصليّون لفلسطين من مسلمين ومسيحيّين ويهود، تُقرَّر بنتيجته طبيعة الدولة الواحدة.
يُعتبر الموقف الإيراني الرافض لإقامة دولتين أحد الأسس التي لم يتخلَّ عنها النظام الإيراني في تعامله مع أزمات الشرق الأوسط، باعتبارها جزءاً من استراتيجيته الإقليمية، وتحديداً في رؤيته لإسرائيل وآليّات حلّ القضيّة الفلسطينية.
إذا ما كان قرار الغياب مساوياً للرفض في أحد أبعاده، فإنّ طهران أكّدت من خلال هذا الموقف التزامها الاقتراح الذي سبق أن قدّمته أمام الأمم المتّحدة مطلع الألفيّة الثالث
تبنّي رؤية “حماس”
أعاد البيان الذي أصدرته البعثة الإيرانيّة في الأمم المتّحدة والذي سوّغت فيه أسباب مشاركتها، إضافة إلى تأكيد مبدأ الدعوة إلى الاستفتاء الشعبي، تأكيد موقف طهران الرافض للرؤية لمستقبل السلطة في قطاع غزّة التي جاءت في إعلان نيويورك وإدانة الأخير الواضحة لعمليّة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل 2023. من جهة أخرى، أعاد تأكيد موقف إيران الداعم للمقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، علاوة على تبنّي رؤية “حماس” للحلّ المطالِبة بوقف فوريّ لإطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي التامّ من القطاع وفتح المعابر وإيصال المساعدات الإنسانيّة الفوريّة وإعادة الإعمار.
يعيد إلى الواجهة الغياب الإيرانيّ عن اجتماع الهيئة العموميّة للأمم المتّحدة أزمة النظام والسلطة اللذين ما زالت تغلب نظرتهما الأيديولوجيّة على الخيارات السياسية والدبلوماسية. يكشف هذا الموقف حجم القلق الإيراني من المشروع الذي يحمله إعلان مستقبل العمليّة السياسية في قطاع غزّة، خاصة في ما يتعلّق بموضوع تسلّم قوّات عربية وأوروبية المسؤوليّات الأمنيّة وإعادة الاستقرار، تمهيداً لانسحاب القوّات الإسرائيلية، ومن بعدها نقل المسؤوليّات الأمنيّة في القطاع إلى مؤسّسات السلطة الفلسطينية الرسمية. وهو ما يعني أنّ طهران ستخسر ورقة حليفتها حركة “حماس” كأحد الأطراف القادرة على إبقائها في دائرة التأثير في أيّ مشروع حلّ مستقبليّ.
الوقوف إلى جانب إسرائيل
بناء على هذه الرؤية، فضّلت إيران الوقوف إلى جانب إسرائيل، أو على الأقلّ، تخفيف الضغط عنها في هذه المرحلة الدقيقة والحسّاسة التي تمرّ بها قيادة تل أبيب نتيجة السياسات العدوانيّة التي تضرب بكلّ الاتّجاهات، وقد لا تكون الضربة التي تعرّضت لها العاصمة القطريّة الدوحة بذريعة محاولة التخلّص من قيادة “حماس”، آخر التصرّفات العدائية لإسرائيل.
يكشف هذا الإجراء في التعامل مع إعلان نيويورك عن خلل في الأداء الدبلوماسيّ للنظام الإيراني، وتراجع واضح في فهم التطوّرات وتداعياتها، خاصّة أنّ إيران سبق أن أعلنت قبولها مبدأ حلّ الدولتين، خلال مشاركة الرئيس إبراهيم رئيسي في القمّة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض عام 2023، ثمّ أعلن وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان موافقته على المبدأ أمام الجمعيّة العموميّة في تشرين الأوّل من السنة ذاتها، مع تأكيد تمسّك بلاده بمقترحها المتعلّق بالاستفتاء العامّ.
يُعتبر الموقف الإيراني الرافض لإقامة دولتين أحد الأسس التي لم يتخلَّ عنها النظام الإيراني في تعامله مع أزمات الشرق الأوسط، باعتبارها جزءاً من استراتيجيته الإقليمية
يؤسّس الامتناع عن المشاركة والتصويت على إعلان نيويورك لمزيد من العزلة الدوليّة للنظام الإيراني، ويضعف موقفه التفاوضيّ خدمة للرؤية الأيديولوجيّة، خاصّة في ظلّ وجود إجماع دوليّ على محاولة إنصاف القضيّة الفلسطينية من خلال تبنّي مشروع الدولتين، الذي في حال تطبيقه سيؤدّي إلى إضعاف المنطق الإسرائيلي ويضع تل أبيب أمام ضغوط دولية مختلفة هذه المرّة، ويكبح طموحاتها التوسّعية العلنيّة.
التغيّب عن المشاركة بهدف الامتناع عن التصويت له المفاعيل نفسها لقرار التصويت الرافض للإعلان، ولذا هو خطوة بالاتّجاه العكسيّ ولا يخدم حقوق الشعب الفلسطيني وطموحاته وتطلّعاته إلى بناء دولته المستقلّة القابلة للعيش، ويخدم الطموحات الإسرائيليّة إلى إنهاء ما بقي من سلطة فلسطينيّة وتنفيذ مخطّطاتها للاستيلاء على الضفّة الغربية وإقامة دولة إسرائيل الواحدة على أراضي فلسطين التاريخيّة.
طريق الاستفتاء غير مسهّلة
يدرك الجانب الإيراني أنّ الوصول إلى الاستفتاء لا بدّ من طرحه على التصويت أمام الجمعية العموميّة للأمم المتّحدة، وهو أمر لا توافق دوليّاً عليه، وقد لا يحصل على نسبة أصوات من الأعضاء تساعد على فرضه خياراً دوليّاً للحلّ، علاوة على وجود شبه قناعة لدى إيران بأنّ هذا المسار قد يستغرق تنفيذه عشرات السنوات، وهو ما يجعله اقتراحاً غير عمليّ. وهذا ما يفسّر عدم إقدامها على طرحه للتصويت أمام الأمم المتّحدة على الرغم من مرور نحو ثلاثة عقود على تبنّيها له.
إقرأ أيضاً: قمّة المسلمين في الدوحة: هل تكبح جماح إسرائيل؟
على الرغم من القدرات الإيرانية العالية في ممارسة البراغماتية، التي تظهر بوضوح في إدارة أزمة الملفّ النووي ومفاوضاته، إلّا أنّ منظومة القرار في السلطة لم تستطِع الفصل بين الأيديولوجية والمصالح المرحليّة، ولم تدرك أنّ التعامل الإيجابيّ مع إعلان نيويورك قد يساعد في تقليل الضرر بمشروع حلّ الدولتين، وأنّ قيام دولة فلسطينيّة مستقلّة وقابلة للحياة يعني إلحاق الهزيمة بالمشروع الإسرائيليّ التوسّعي الرافض لأيّ حلول في الإقليم.
