عندما صدرت وثيقة الوفاق الوطني أو ما عُرف باتفاق الطائف في 22 تشرين الأول 1989، أُغلقت رسمياً أبواب الحرب الأهلية. لكنّ الأعمال الحربية لم تنتهِ إلا بإخراج الجنرال ميشال عون من قصر بعبدا، بعد عام تقريباً (13 تشرين الأول 1990). كان لبنان قد أصبح فعلاً في مرحلة تقسيم جغرافي وتقاسم نفوذ بين القوى المسلّحة الأساسية من موارنة وشيعة ودروز، ذلك لأنّ الميليشيات السنّيّة كانت قد صُفّيت قبل سنوات، في ظروف وعناوين مختلفة:
– حركة المرابطون في بيروت عام 1985 بتهمة الولاء لياسر عرفات (عرفاتيّين).
– حركة التوحيد الإسلامي في طرابلس في العام نفسه بتهمة التطرّف والعرفاتيّة معاً.
هكذا صارت القسمة على ثلاثة بعدما كانت على أربعة نظريّاً. وتزامنت التصفية المذكورة مع الاستعدادات الجارية للاتفاق الثلاثي بين القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة، والحزب التقدّمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط وحركة أمل بقيادة نبيه برّي. ووُقِّع الاتفاق في دمشق في 28 كانون الأول من ذاك العام.
عندما صدرت وثيقة الوفاق الوطني أو ما عُرف باتفاق الطائف في 22 تشرين الأول 1989، أُغلقت رسمياً أبواب الحرب الأهلية
ميليشيات ومناطق نفوذ
المشكلة لم تكن مذهبية فقط، بل جغرافية كذلك. فالمناطق ذات الأغلبية السنّيّة مشتّتة ومعزولة ومحاصَرة بقوى ومناطق مغايرة. فالسُّنّة في الشمال والبقاع كانوا يرزحون تحت قبضة الجيش السوري. والنظام في دمشق بالغ التحسّس من أيّ كيان سنّيّ في لبنان ينعكس أثره في الداخل.
أمّا القوى المسلّحة الثلاث، فكانت تهيمن تباعاً على معظم السلسلة الجبلية الغربية وملحقاتها الساحلية. فلكلّ قوّة منها، مواردها وهياكلها ومرافئها. وبقيت العقدة في إطلاق مطار حالات في جبيل. وتقاسم الحصص في مطار بيروت الشيعة والدروز. لذلك عندما سعى الجنرال عون إلى حسم صراع النفوذ مع القوات اللبنانية في شباط عام 1989 تحت عنوان استعادة الشرعية، ومع الجيش السوري في آذار من العام نفسه في ما عُرف بحرب التحرير، طالب بإغلاق المرافئ غير الشرعية كخطوة رمزية لتأكيد شرعيّته وزعامته الوطنية.
كان تقاسم المناطق بين الميليشيات الطائفية آخر مرحلة من مراحل الحرب الأهلية، وقد تكون الأسوأ. لكنّ الصراع السياسي تحوّل بسرعة إلى نزاع طائفي صريح، ابتداء من حرب السنتين (1975-1976). لكنّ استمرار “الحركة الوطنية” في المناطق الإسلامية، وفيها من كلّ الطوائف، أبقى بصيص أمل انطفأ في المرحلة الأخيرة من الحرب، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وما تبعه من تهجير ومقاتل في جبل لبنان الجنوبي من دون تمييز بين حليف وعدوّ، على أساس الانتماء الديني (حرب الجبل بين عامَيْ 1983 و1984). وحتى تصفية الميليشيا السنّيّة في بيروت، لم تكن تحمل تأويلاً مقنعاً سوى الغدر بين رفاق السلاح الذين أسقطوا هيمنة النظام برئاسة أمين الجميّل، في انتفاضة 6 شباط 1984. لم يكن ثمّة حافز سوى التقاسم والتقسيم:
– القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع، بعد هزيمتها المدوّية في الجبل، وانقلابها على الاتفاق الثلاثي، وعلى قيادة إيلي حبيقة مطلع عام 1986، انكفأت إلى المنطقة بين كفرشيما والمدفون، وراحت تعلن مشروعها السياسي للحلّ: الفدرالية.
– الحزب التقدّمي الاشتراكي أنشأ إدارته الذاتية، بعد موت الحركة الوطنية.
– حركة أمل بقيادة نبيه برّي حافظت على خطابها السياسي الرافض للتقسيم. لكنّ حربها الدموية ضدّ المخيّمات الفلسطينية الواقعة بجوار المناطق ذات الأغلبية الشيعية أو في وسطها في ضواحي بيروت، وفي الجنوب بين عامَيْ 1985 و1988، أشعرت بأمر مغاير.
– القوى المسيحية كانت قد فعلت الأمر نفسه في حرب السنتين ضدّ المخيّمات الفلسطينية والبؤر الإسلامية في مناطقها. وما هذا وذاك إلا السعي إلى مناطق شبه صافية.
ترافق هذا الجهد في كلّ منطقة مع تصفيات متبادلة بين قوى متنافسة في المعسكر نفسه. ما حدث في المناطق الشرقية تحت عنوان: “توحيد البندقية” تحت راية القوات اللبنانية (بين عامَيْ 1978 و1980)، وقع شبيه له في الضاحية الجنوبية والجنوب، في ما عُرف بحرب الأشقّاء بين حركة أمل القوّة الشيعية الرئيسية آنذاك، وحزب الله القوّة الصاعدة والواعدة، بدعم إيراني بين عامَيْ 1988 و1990.
كان تقاسم المناطق بين الميليشيات الطائفية آخر مرحلة من مراحل الحرب الأهلية، وقد تكون الأسوأ
مشكلة مزدوجة
اتّفاق الطائف هو الذي أوقف رسميّاً سلسلة الأوهام عن إمكانية الفدرلة أو التقسيم. لكنّ السبب الحقيقي لتمرير الاتفاق، هو التقاتل الدموي في المناطق المسيحية بين وحدات الجيش اللبناني التابعة لميشال عون، والقوات اللبنانية بقيادة جعجع عام 1990، أي بعد إبرام الاتفاق.
الآن، وبعد أكثر من 33 سنة على تجويف الاتفاق وإفراغه من مضمونه، هل من الممكن العودة الآمنة إلى مشروع الفدرالية أو التقسيم من دون حرب؟
هذا هو السؤال الجوهري في هذه المرحلة. فاليأس من قدرة النظام الحالي بلغ مداه عند جمهور المسيحيين، ولو بتطبيق جزئي ومشوّه لاتفاق الطائف، لاستيعاب مخاوفهم على الدور والوجود، بعد التجربة المريرة لتفاهم مار مخايل عام 2006، ثمّ التسوية الرئاسية عام 2016 بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل.
لم تقبل القوى المسيحية مندرجات اتفاق الطائف إلا اضطراراً وعلى مضض. وهي انتهزت كلّ فرصة ممكنة لتجاوزه، والسير بعكسه. وكانت ولاية ميشال عون الرئاسية أبرز مظاهر الانقلاب على الطائف، بتواطؤ مع القوات اللبنانية تحت عنوان استرداد صلاحيات رئيس الجمهورية، أي ضرب نظام الطائف في الصميم.
هذه المشكلة قائمة بحدّ ذاتها، بغضّ النظر عن مشكلة حزب الله في النظام وخارجه. فالمشكلة مزدوجة، وحلّها لا يكون باستراتيجية دفاعية، أو لبننة الحزب، بل هي أعمق، وترجع إلى مفهوم لبنان نفسه، ومبرّرات وجوده بهذين الشكل والحجم. فمع حزب الله كقوّة راجحة في الداخل، ليس الحلّ سهلاً، وليس سهلاً طرح الفدرالية طريقاً للسلام والوئام بين الطوائف. بل إنّ الحديث المتعجّل عن حلول سهلة وجاهزة للأزمة اللبنانية الراهنة، خارج اتفاق الطائف، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والتعويل مجدّداً على الفدرالية كحلّ أخير، هو دخول واعٍ أو لا واعٍ (وهو الأسوأ) في مقدّمات حرب جديدة، على تقاسم النفوذ بين أطراف الفريق الواحد، وعلى التقسيم الجغرافي للبنان الكبير، ليصبح لبنانات صغيرة متناحرة، ليس على عقار صغير هنا، أو خراج بلدة هناك، بل على مساحات عريضة متداخلة عقارياً وطائفياً، من شبه المستحيل حلّ النزاعات حولها، بطريقة سلمية.
بعد انتهاء الحرب اللبنانية مطلع التسعينيات، أصبح الكلام عن الفدرالية والتقسيم من المحرّمات السياسية، ووُصمت بهما القوات اللبنانية خاصة، باعتبار أنّ خصمها المسيحي الرئيسي (التيار الوطني الحر) يجاهر بما هو ضدّهما
ربّما يأمل الفدراليون التفاهم مع الحزب كقوة إسلامية وازنة، فتنعقد الصفقة من دون اعتبار للسُّنّة الضعفاء والمشتّتين، المفتقرين إلى مرجعية واحدة أو قيادة نافذة. لكن هل الصفقة ممكنة؟ وهل تكفي لصنع السلام بين الطوائف المتناحرة بعيداً عن الوفاق الوطني وعن وثيقته اتفاق الطائف؟
فدراليّة بلا حرب؟
بعد انتهاء الحرب اللبنانية مطلع التسعينيات، أصبح الكلام عن الفدرالية والتقسيم من المحرّمات السياسية، ووُصمت بهما القوات اللبنانية خاصة، باعتبار أنّ خصمها المسيحي الرئيسي (التيار الوطني الحر) يجاهر بما هو ضدّهما. وخاض ميشال عون حروباً لتوحيد كلّ لبنان، وكانت له شعبية لدى الطوائف الإسلامية في تلك الحقبة من القرن الماضي، على أساس هذا الخطاب السياسي. المفاجأة الصادمة لهؤلاء، عندما انقلب عون وصهره على هذا الخطاب، وأصبح الهدف هو استعادة حقوق المسيحيين من السُّنّة.
على هذا المسار، انطلق سباق بين العونيين والقواتيين في من يكون أكثر التواء عن الطائف، وأشدّ تمسّكاً بالطائفية السياسية التي سعى الاتفاق إلى إلغائها. وبعدما كان الفريقان الأقوى مسيحياً يتحدّثان عن ضرورة تنفيذ اللامركزية الموسّعة، تهرّباً من لفظ كلمة الفدرالية، أضحت اليوم مستساغة أكثر فأكثر، مع رواج الفكرة لدى المسيحيين، ويأس جبران باسيل من الوصول إلى رئاسة الجمهورية. كانت العبارة الملطّفة لدى التيار الوطني الحرّ هي: “اللامركزية الموسّعة ماليّاً وإداريّاً”، فيما ذكر اتفاق الطائف عبارة “اللامركزية الموسّعة” فقط. وهي جاءت في الاتفاق بديلاً عمّا كان يُطرح في أواخر الحرب الأهلية من فدرالية. تروج الآن الفكرة والعبارة في الأوساط المسيحية. وفي مناخ المزايدة بين العونيين والقواتيين، باتت كلمة “الفدرالية” تتردّد بسهولة على ألسنة أغلبيتهم، إمّا كمشروع جادّ أو كورقة ضغط وتفاوض.
الفدرالية ممكنة التحقّق إذا كانت كلّ الطوائف والأحزاب متوافقة جملةً وتفصيلاً على ما يعنيه النظام الفدرالي بالدقّة، والحدّ الذي تبدأ منه صلاحيّات الحكومة الاتحادية، والحدّ الذي تنتهي عنده السلطات المحليّة، وحدود الكيانات، وحقوق الأقليّات في كلّ منطقة أو “كانتون”، والجهة الصالحة لحلّ نزاعات الحدود والملكيّات العقارية. والأهمّ من ذلك هو التوافق على السياسات السيادية للاتحاد، أي الدفاع والخارجية، ودور المصرف المركزي وصلاحيات حاكمه، لأنّ العملة ستبقى واحدة. لكن أليس الخلاف اليوم هو على هذه النطاقات الثلاثة؟ هل نذهب إلى الفدرالية وتبقى مشكلة السيادة في مكانها؟
إقرأ أيضاً: حديث جعجع عن الفدرالية… خدمة “مجّانيّة” لباسيل
يبدو أنّ ثمة سوء فهم. فما يُطرح هو أقرب إلى الكونفدرالية، أي تقسيم لبنان إلى دول صغيرة مستقلّة، ثمّ إنشاء اتّحاد فضفاض بينها، لرعاية المصالح المشتركة. فإذا اندلعت حرب بين حزب الله وإسرائيل مثلاً، فلا دخل للمنطقة المسيحية بكلّ ما يستتبعه الصراع. وإذا أراد المسلمون بقاء النازحين السوريين فليستقبلوهم في مناطقهم مع الشكر الجزيل. مياه نهر الكلب هي للمسيحيين، وليجرّ المسلمون المياه من سدّ بسري. لنا كهرباؤنا في الزهراني ودير عمار، ومعمل سلعاتا حتماً للمسيحيين. لكن أليس هذا ما كان يهيّئ له جبران باسيل مسبقاً؟ هل تستحقّ رئاسة الجمهورية تصغير لبنان الكبير؟