خصوصية الحملة الإسرائيليّة على الضفة

مدة القراءة 4 د

ما يجري الآن في الضفة تحديداً هو حملة من ضمن عشرات الحملات المماثلة التي قام بها الجيش الإسرائيلي ليس لدوافع أمنيّة كما دأب على تعريف أعماله، وإنّما لتقويض الإمكانات الذاتية والموضوعية التي تقوم الدولة الفلسطينية عليها.

 

للحملة الإسرائلية الراهنة في الضفة الغربية مدلولات خاصّة يفصح عنها اليمين الإسرائيلي، الذي انتقل من وضع المُطالب بسياسات محدّدة إزاء الضفة، إلى وضعٍ متقدّمٍ في صنع السياسات وتنفيذها، وذلك من خلال المكانة التي احتلّها غلاة اليمين المتشدّد، في بنية الحكومة الإسرائيلية وبرامجها وقراراتها. فهذا اليمين المتشدّد يتحكّم بمفاصل أساسية للدولة الإسرائيلية العميقة، فهو المسؤول عن وزارة المالية، التي هي الوزارة الأهمّ في إسرائيل، والمشارك كذلك رسمياً وفعليّاً في وزارة الدفاع، والمرجع الأوّل والأخير في سياسات الاستيطان، إضافة إلى وزارة الأمن الداخلي ذات الصلاحيات الواسعة في كلّ ما يتّصل بالفلسطينيين، وخاصة في القدس.

التهجير القسري يهدّد الضفة

حين يتحكّم غلاة اليمين وسدنة الاستيطان بالحكومة وقراراتها، ينبغي أن يُنظر إلى ما يجري الآن في الضفة بجدّية أكثر بكثير من السابق، فإذا كان التهجير القسري متعذّراً فما يزال في قلب الأجندة الإسرائيلية وعلى رأس أهداف الدولة العميقة، فاليمين المتحكّم بالقرارات والسياسات لا يخفي تطلّعه لرؤية الضفة خالية من أهلها، أو قليلة الكثافة، أي قليلة القدرة على المواجهة.

تتزامن الحملة الراهنة على الضفة مع الحرب التدميرية المتواصلة على غزة، والحرب السياسية “الاستراتيجية”، التي أعلنها الكنيست برفض قيام دولة فلسطينية، تشير إلى أنّ ما يجري هو حرب شاملة مكتملة العناصر والأدوات والأهداف، وفي الحالة الفلسطينية فإنّ الضفة التي هي أرض الدولة الفلسطينية ستكون مركز الجهد الإسرائيلي الحالي والمقبل، حتى لو لم تضع الحرب على غزة أوزارها.

نحن الآن في غمار فصلٍ جديدٍ من فصول الصراع، وسوف يتواصل في فصول أخرى إلى أن يتحقّق حلٌّ يرضى عنه الفلسطينيون، وهذا ما لا يُرى في الأفق القريب

يتّصل مدلولٌ آخر بالتطوّرات التي نتجت عن حرب غزة. فقد راقبت إسرائيل مسار الحملة الدولية الشاملة التي دعت إلى قيام الدولة الفلسطينية ووصلت في بعض تجلّياتها حدّ الاعتراف المسبق بها، وخاصة من قبل بعض الدول الأوروبية، وذلك أشعل ضوءاً أحمر في دوائر صنع القرار في إسرائيل، وأدّى عمليّاً إلى التسريع في حملة الضفّة حيث العنوان الأمنيّ المتداول هو للتصدير الخارجي وحسب، وأمّا الهدف الحقيقي فهو تفتيت البنية التحتية للدولة الفلسطينية العتيدة.

عدوان على التوقيت الأميركي

يوضع مدلولٌ آخر في الحساب. في إسرائيل تتحدّد الخطوات تجاه الفلسطينيين وفق الروزنامة الأميركية واهتماماتها وانشغالاتها، وليس أفضل من هذا الوقت لتفعل إسرائيل فعلها ضدّ الفلسطينيين، بينما الإدارة الأميركية التي تدّعي بعض توازن تجاه مصالحهم لا تملك إلا أن تتغاضى عن أيّ فعل إسرائيلي، حتى لو تجاوز الخطوط الحمر التي كانت ترسمها أميركا ولو لذرّ الرماد في العيون فقط.

الضفة

هذه بعض المدلولات الخاصة للحملة العسكرية والواسعة على الضفة، غير أنّ كلّ ما تقدّم وإن كان خطراً بالفعل ويستحقّ القلق منه، إلا أنّه بالمقابل يصطدم بواقع الضفة وأهلها وقوّة تمسّكهم بالحياة فيها وعدم الهجرة منها والصمود أمام التحالف العسكري والاستيطاني بكلّ الوسائل المشروعة والمتاحة، فما حرّمه الفلسطينيون على أنفسهم يجسّد قوّة جدّية تحسب إسرائيل حسابها وتتخوّف منها. لقد حرّموا على أنفسهم مغادرة الوطن مهما بلغت الشراسة الإسرائيلية، وحرّموا على أنفسهم رفع راية بيضاء حتى لو احتشد الجيش الإسرائيلي كلّه وقطعان مستوطنيه أمام بيوتهم وعلى طرقاتهم.

إنّهم يفعلون ذلك منذ اليوم الأوّل من عام 1967، ومن تخافهم إسرائيل حقّاً هم من تسمّيهم بالذئاب المنفردة، التي لا يُعرف متى تثور ومتى تهدأ.

ما يجري الآن في الضفة تحديداً هو حملة من ضمن عشرات الحملات المماثلة التي قام بها الجيش الإسرائيلي ليس لدوافع أمنيّة

وما تخافه إسرائيل أكثر أنّها تشتبك مع الملايين من الفلسطينيين على كلّ جغرافيا الوطن وليس مع بؤر متناثرة هنا وهناك، فمعركة البقاء والوجود الفلسطيني ليست معركة عسكرية بقدر ما هي معركة شاملة، وهذا ما جعل حرب إسرائيل في الضفة الأصعب، فعلى مدى سبع وخمسين سنة لم تستطع قوّة الاحتلال الغاشمة وقف نموّ الظاهرة الفلسطينية في وطنها، ومن الجنون أن يفكّر الإسرائيليون في ابتلاع الملايين المتوالدة على أرض الوطن وتقويض حقوقهم وأحلامهم.

إقرأ أيضاً: عبّاس… الممرّات المغلقة إلى غزّة

نحن الآن في غمار فصلٍ جديدٍ من فصول الصراع، وسوف يتواصل في فصول أخرى إلى أن يتحقّق حلٌّ يرضى عنه الفلسطينيون، وهذا ما لا يُرى في الأفق القريب.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…