منذ وقع انقلاب حماس على السلطة في عام 2007، لم يعلن الرئيس محمود عباس ما أعلنه في أنقرة. لقد قرّر الذهاب إلى غزة مصطحباً معه القيادة الفلسطينية ليعيش أو يموت على أرضها وبين شعبها تحت شعار النصر أو الشهادة.
الرئيس عباس أكثر مسؤول فلسطيني وحتى عربي يعرف إسرائيل، حتى إنّه ألّف كتباً عنها قبل أن يواجهها على طاولات المفاوضات، وأثناء تجربة الحكم في المناطق التي أتيح له أن يحكم فيها، والتي اصطلح على تسميتها بمناطق الحكم الذاتي.
أُبعِدَ عباس أو ابتعد عن غزة سنوات طويلة، تاركاً وراءه حين غادرها حكماً مطلقاً لحماس، ليجد أمامه في الضفة ما كان يَعرِف، حكماً أمنيّاً عسكرياً لإسرائيل، يغطّيه مصطلح التنسيق الأمني الذي بمقتضاه تقلّصت صلاحيات وقدرات سلطته حتى على المناطق التي من المفترض أنّها تحت سلطته الكاملة وفق اتفاقات أوسلو، أي المناطق الواقعة تحت التصنيف “أ”.
رام الله وتراجع الشّعبيّة
خلال وجوده في رام الله، بدأت على نحو متسارع تراجعات في شعبيّته وشعبيّة سلطته مع تراجع في الرهانات على سياساته السلمية التي أساسها… بديل المفاوضات هو المزيد منها.
نشأت في فترة حكمه الطويلة الأمد ظواهر مرضية شديدة الخطورة، منها غياب عمل المؤسّسات المفترض أن تستمدّ دورها وشرعيّتها من الانتخابات، واستفحال الانقسام ليبلغ حدّ الانفصال، وهو ما اضطرّه إلى ملء فراغ المؤسّسات بحكم البلاد بالمراسيم، وذلك أنتج خللاً إداريّاً عميقاً رافقته وربّما نتجت عنه سلسلة أزمات أكثرها حدّة الأزمة المالية التي لم تمكّن موظّفي السلطة البالغ عددهم ما لا يقلّ عن 180 ألفاً من قبض راتب شهر كامل دون حسومات وصلت إلى خمسين في المئة.
طوال حكم عباس في الضفة تكرّست حالة ساهمت إسرائيل فيها بشكل جوهري، وهي ظهور السلطة كما لو أنّها لا لزوم لها
السّلطة لزوم ما لا يلزم
طوال حكم عباس في الضفة تكرّست حالة ساهمت إسرائيل فيها بشكل جوهري، وهي ظهور السلطة كما لو أنّها لا لزوم لها. كانت دوريّات الجيش الإسرائيلي تصل إلى بوّابة المقاطعة حيث مقرّ الرئيس عباس، وتضع ختم الشمع الأحمر على أبواب منشآت فلسطينية لا ترضى إسرائيل عن أدائها، وتستولي على أوراق ومستندات المصارف وتصادر موجوداتها، وذلك مع ازدياد ظاهرة اقتحامات ميليشيات المستوطنين للقرى والأحياء الفلسطينية، تحت حماية ومشاركة الجيش وفي غياب يكاد يكون مطلقاً للسلطة.
كلّ ذلك على صعوبته وخطورته لم ينَل من صلابة الحالة الشعبية الفلسطينية. فلا هجرة من الوطن مع أنّ الجسور مفتوحة إلى الأردن، ولا استسلاماً للصعوبات المدبّرة بإحكام من قبل الاحتلال.
الصمود الشعبي الفلسطيني في وجه هذا كلّه تواصل حدّ الإعجاز، وظهر جليّاً منذ بداية الحرب على غزة، حيث تضاعفت أزمات الحياة وانخفضت مداخيل المواطنين حتى بلغت صفراً، على صعيد الطبقة العاملة، وهو ما وضع السلطة أمام معضلات لا تملك حلولاً لها ولا حتى التخفيف من وقعها على المواطنين. وترافق ذلك مع صمتٍ استغرق وقتاً طويلاً حيال ما جرى من حرب على غزة منذ السابع من أكتوبر. لم تحسن رجالات السلطة تغطيته أو تفسيره إلا بالقول: إنّ الذين فعلوا موقعة السابع من أكتوبر لم يتشاوروا مع السلطة في رام الله بشأنها!
كلّ ذلك تجمّع في وجه الرئيس عباس، إلى أن وصلت الأمور إلى خطاب أنقرة الذي كان انقلاباً على كلّ ما سبقه.
تمخّض الخطاب عن قرار التوجّه إلى غزة والطلب من مجلس الأمن المساعدة في ذلك.
الرئيس عباس أكثر مسؤول فلسطيني وحتى عربي يعرف إسرائيل، حتى إنّه ألّف كتباً عنها قبل أن يواجهها على طاولات المفاوضات
ممرّا غزة “إيريز” ومدخله إسرائيل، ورفح ومدخله إسرائيل كذلك، مغلقان تماماً وليست لدى عباس المساحة التي توافرت للعاهل الأردني حين حلّق بطائرته فوق غزة وألقى بحمولتها من المؤن على أهلها، وليست لديه القدرة على اقتحام الجدار الإسرائيلي الواقف على الممرّين لتطبيق فكرة النصر أو الشهادة التي كانت العنوان الدرامي للخطاب الانقلابي.
إقرأ أيضاً: 15 آب: أسئلة كثيرة حول المحاولة الأخيرة
الخلاصة والحالة هذه أنّ عباس عرض ما يستطيع حيال هذا الوضع البالغ التعقيد، وهو يدرك استحالة دخوله غزة في هذه الظروف، إلا أنّه سجّل اسمه واسم سلطته على قائمة اليوم التالي، وهذا أمر له ما له وعليه ما عليه.