حصّة طهران “محفوظة” في المطبخ التّركيّ العراقيّ !

مدة القراءة 9 د

نجحت دبلوماسية الأبواب الخلفية بين تركيا والعراق في دفع البلدين نحو توقيع العشرات من الاتفاقيات ومذكّرات التفاهم السياسي والأمني والاقتصادي. الباقي الآن لا يقلّ أهمّية عمّا أُنجز، وهو الالتزام بالتنفيذ. ما يسبق هذا التنفيذ هو سلسلة من الأسئلة الطارئة التي تحتاج إلى أجوبة شافية.

 

ما الذي تعنيه مشاركة القيادي في “هيئة الحشد الشعبي” فالح الفياض في الوفد العراقي الرسمي المتوجّه إلى أنقرة للتفاوض حول أكثر من ملفّ سياسي وأمنيّ واقتصادي؟ هل يحضر الفياض ليعلن بذلك أنّه سيكون جزءاً من سياسة الانفتاح التركي العراقي الرسمي الذي انطلق مجدّداً قبل عام؟ أم يعني أنّ طهران نجحت في فرض حصّتها على الجانبين؟ أم الهدف هو الالتفاف على تصريحات ومواقف “الحشد الشعبي” حيال تركيا ووجود قوّاتها في شمال العراق؟ أم هو تمهيد لقبول قوات الحشد شريكاً منتشراً على الحدود بين البلدين على الرغم من علاقته بإيران والسليمانية ومجموعات “قسد”، بعكس ما كانت تردّده القيادات التركية عام 2016 حول “الحشد الشعبي” و”الحشد الوطني”؟ لعبة المفاجآت مستمرّة بين أنقرة وبغداد، فهل يأتي الدور على قيس الخزعلي ليجلس إلى طاولة القرار والتفاهمات التركية العراقية أيضاً؟

العلاقات التركية العراقية أمام تقاطع طريق جديد صعب ومعقّد. هل نجح اللاعب الإيراني في تسجيل اختراق مهمّ وحماية حصّته ونفوذه في مسار العلاقات التركية العراقية، أم هي خطوة براغماتية تركية عراقية كان لا بدّ منها لإنهاء مشروع ربط المربّع الحدودي العراقي التركي الإيراني السوري برغبة طهران في الهيمنة على هذه البقعة الجغرافية الواسعة بالتنسيق مع “قسد” والسليمانية وفي ظلّ التجاهل الأميركي لما يدور؟

بقدر ما كان العراق كبيراً وقويّاً بقدر ما كانت المؤامرات التي تحاك ضدّه كبيرة وقويّة وتستهدف عمق بنيته السياسية والعرقية والمذهبية

الانفتاح التّركيّ على الأذرع الإيرانيّة

قرار واشنطن تدريب مجموعات “قسد” على استخدام منظومة صواريخ الدفاع الجوّي “أفنجر” خطوة استراتيجية وليست تكتيكية ولا علاقة لها بخطط الحرب على داعش. الرسالة أيضاً تعني أنقرة قبل أن تعني طهران. كلّ طرف يراجع حساباته ومواقفه، والتقارب التركي العراقي الأخير الذي سيضيّق الخناق على بقايا حزب العمال ويقطع خطوط الإمداد والتواصل بين القامشلي والسليمانية هو معنيّ أيضاً.

بدأ التحوّل الفعليّ في مواقف وعلاقات أنقرة بالجماعات العراقية المسلّحة المحسوبة على إيران في نهاية شهر آب من العام المنصرم، من خلال لقاء جمع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بالأمين العامّ لـ”عصائب أهل الحقّ” قيس الخزعلي. ثمّ تبعت ذلك زيارة السفير التركي في العراق إنال بورا إنان في شهر تموز المنصرم لرئيس “هيئة الحشد الشعبي العراقي” فالح الفياض. وبعدها في آب المنصرم خلال زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان للعراق واجتماعه بهادي العامري رئيس “تحالف الفتح”، وتُوّج ذلك بمشاركة الفياض في الوفد العراقي الرسمي الذي زار تركيا واستقبله الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وضمّ وزيري الخارجية والدفاع العراقيين ورئيس جهاز الاستخبارات ووزير الداخلية في حكومة إقليم كردستان العراق.

المسألة أبعد من موضوع مقايضة اقتصادية إنمائية وأمنيّة بين أنقرة وبغداد مثل الحصول على حصّة أكبر من مياه نهرَي دجلة والفرات، مقابل حسم موضوع التحكيم الدولي والتعويضات التي تريدها بغداد والمصحوبة بفتح طريق تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي المغلق منذ آذار 2023. زيادة كمّية ضخّ المياه إلى العراق مهمّة طبعاً، لكنّ المهمّ كان أيضاً اتفاقيات توسيع رقعة التعاون العلمي والتقني في الاستفادة من كمّيات المياه وحبسها وتوزيعها. المسألة مرتبطة أيضاً بالتحوّلات الإقليمية والاصطفافات الجديدة المحتملة ومصالح البلدين الاقتصادية في خطط تفعيل الممرّ العراقي التجاري.

هدف أنقرة التالي في العراق بعد الوصول إلى عشرات الاتفاقيات ومذكّرات التفاهم في الأشهر الأخيرة هو حسم موضوع خطوط التنقّل الحدودي

المهمّ كذلك هو التحوّل الحاصل في التعامل مع ملفّ حزب العمّال في شمال العراق. من مجموعات دفعتها أنقرة باتّجاه الأراضي العراقية كما يردّد البعض في الداخل العراقي، إلى مجموعات محظورة، ثمّ مجموعات تشكّل خطراً على الأمن القومي العراقي وتهدّد أمن دولة جارة. هكذا تطوّرت الأمور وتبدّلت المواقف لتصل إلى قرار إنشاء غرفة عمليات عسكرية وأمنيّة تركية عراقية مشتركة لمحاربة عناصر حزب العمال في شمال العراق.

طهران

إشراف وزيري الخارجية التركي والعراقي اليوم على خطط تفعيل دور “مجموعة التخطيط التركية-العراقية”، إلى جانب وضع اللمسات الأخيرة على “غرفة العمليات العسكرية والأمنيّة المشتركة” التي سيكون مقرّها في العراق ويشارك الضبّاط الأتراك في اجتماعاتها، يعنيان الكثير بالنسبة للطرفين بالمقارنة مع ما كان يدور ويقال قبل عامين مثلاً.

ما بين تل أبيب وطهران

هدف أنقرة التالي في العراق بعد الوصول إلى عشرات الاتفاقيات ومذكّرات التفاهم في الأشهر الأخيرة هو حسم موضوع خطوط التنقّل الحدودي بين شرق الفرات وشمال العراق الذي تشرف عليه مجموعات “قسد” والسليمانية بغطاء إيراني – أميركي. فالتسهيلات المقدّمة لكوادر وعناصر حزب العمال عبر هذه الخطوط تعني أنّ التفاهمات بين أنقرة وبغداد لا قيمة لها ما دامت خطوط دعم خلفيّ واسع من هذا النوع تهدّد خطط تحسين العلاقات بين البلدين. اللافت هنا هو أنّ أنقرة لا تفاوض واشنطن على ذلك بل بغداد نفسها، وهذا مؤشّر آخر إلى حجم التنسيق والانفتاح بين الطرفين. مشكلة أنقرة لم تعد مع بغداد وأربيل بقدر ما هي مع السليمانية و”حزب الاتحاد الوطني الكردستاني” وزعيمه بافل طالباني الذي يواصل توسيع رقعة علاقاته بحزب العمال و”قسد”، كما قال أخيراً وزير الدفاع التركي يشار غولر.

نجحت دبلوماسية الأبواب الخلفية بين تركيا والعراق في دفع البلدين نحو توقيع العشرات من الاتفاقيات ومذكّرات التفاهم السياسي والأمني والاقتصادي

يقول الكاتب والأكاديمي التركي الإسلامي يوسف قبلان في آخر كتاباته المنشورة في صحيفة “يني شفق” المقرّبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم: “شهد القرن الماضي في العالم الإسلامي حدثين متزامنين: أوّلاً تمّ تدمير تركيا الإسلامية وإحلال تركيا العلمانية بدلاً منها، وثانياً تمّ القضاء على إيران العلمانية وتمهيد الطريق لإيران الشيعية من خلال الثورة الإسلامية بقيادة الخميني الذي جُلب من باريس بطائرة فرنسية”.

كتابات وتحليلات مشابهة تحذّر من الممارسات الإسرائيلية في الإقليم، لكنّها تحذر أيضاً من سياسات إيران وأهدافها، داعية إلى بناء تحالفات إقليمية جديدة تأخذ بعين الاعتبار ما تفعله تل أبيب وطهران.

سياسة أنقرة البراغماتيّة

يخطىء من يعتقد أنّ هذا الكمّ الهائل من الخلافات والتباعد التركي العراقي من الممكن تسويته وحسمه من خلال زيارة أو اتفاقية. البعد الإقليمي في الحوار بين الطرفين ولعبة التوازنات والمصالح لقوى إقليمية أخرى لهما حصّتهما، وهما كانا وما زالا عقبة أساسية أمام إزالة الحواجز والعقبات في هذا التواصل. أرضت أنقرة بغداد بخطوة تليين سياستها المائية حيال الجانب العراقي. وأعطت بغداد أنقرة بعض ما تريده بإعلان حزب العمال مجموعات محظورة. لكنّ اللاعب الإيراني لن يترك الأمور تسير باتّجاه ما لا يريده أو يتعارض مع حساباته ومصالحه في محاولة تفعيل الحوار التركي العراقي.

إمّا الكاتب التركي قبلان لا علم له بقرار أنقرة استقبال فالح الفياض في عداد الوفد العراقي، وإمّا أنّه مخطىء في تقديراته حول إيران، فأنقرة قرّرت قراءة مسار التطوّرات بشكل مغاير لما يقول ويريد، وتعتمد سياسة براغماتية جديدة في التعامل مع النفوذ الإيراني في العراق لمحاصرة مجموعات حزب العمال وإفشال الخطّة الأميركية في لعب ورقة الثنائي قسد – السليمانية ضدّها.

نقل الخميني في أواخر السبعينيات إلى طهران لقيادة المرحلة السياسية لم يكن مجّانيّاً. تطوّرات المشهد الإقليمي بعد إزاحة نظام الشاه واستبداله بقيادة جديدة

نقل الخميني في أواخر السبعينيات إلى طهران لقيادة المرحلة السياسية لم يكن مجّانيّاً. تطوّرات المشهد الإقليمي بعد إزاحة نظام الشاه واستبداله بقيادة جديدة كانت تعكس جزءاً من أهداف المشروع الإقليمي الجديد: إشعال حروب وأزمات في أكثر من مكان في الإقليم، تحوّلات الساحة السياسية والأمنيّة والديمغرافية اللبنانية، الخروج السريع لما سمّي بثورات الربيع العربي عن الأهداف المعلنة في واشنطن ولندن وباريس، وارتدادات ذلك على التوازنات الإقليمية بأكملها، خلط أوراق على أكثر من جبهة تركية وعربية يخدم مصالح اللاعبين الإيراني والإسرائيلي. هذا إلى جانب إسقاط أنظمة واستبدال قيادات.

سلّمت وزارة الخارجية العراقية القائم بأعمال السفارة البريطانية في بغداد مذكّرة احتجاج على خلفية التصريحات التي أدلى بها السفير ستيفن هيتشن قبل أيام حول الأمن في البلاد “والتي مسّت الشأن الأمنيّ والسياسي بشكل يعكس صورة قاتمة عن العراق”. السفير البريطاني يقول: “هناك تهديدات للبريطانيين، وأنا شخصياً أتعرّض لتهديدات، إذ إنّ بعض المجاميع المسلّحة لا تحبّنا.. من الصعب أن أشجّع أقاربي على زيارة العراق في ظلّ التهديدات والانفلات الأمنيّ”.

إقرأ أيضاً: “العدالة والتّنمية” التّركيّ بعد 23 عاماً: “من وين لوين؟”

ارتكبت أخطاء استراتيجية من قبل القيادات العراقية حيال دول الجوار والإقليم في العقود الأخيرة. لكن بقدر ما كان العراق كبيراً وقويّاً بقدر ما كانت المؤامرات التي تحاك ضدّه كبيرة وقويّة وتستهدف عمق بنيته السياسية والعرقية والمذهبية. ما الذي تعنيه صناعة دستور عام 2005؟ وما الذي قدّمه للشعب العراقي من إنجازات؟ ولماذ ترك كلّ هذا الفراغ الدستوري والسياسي والأمنيّ في موادّه؟ العراق يريد أن يتعافى لكنّ هناك من لا يريد له ذلك؟

 

لمتابعة الكاتب على X:

@Profsamirsalha

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…