لائحة البطريرك صفير لرئاسة الجمهورية

مدة القراءة 9 د

صدر للزميل نبيل هيثم كتاب من إصدار “دار بلال للطباعة والنشر” في آذار 2021، يتناول مذكّرات ووقائع محطّات مشوّقة من الدروس السياسية يقصّها الرئيس نبيه بري عن كثب، وشارك في اتّخاذ أكثر من قرار مفصليّ فيها.

وقد عرّف الزميل نبيل هيثم كتابه “الثقب الأسود” بالقول في نهاية المقدّمة التي عنونها  “أوّل الكلام.. تحية وسلام”:

“برعاية مباشرة من دولة الرئيس، وُفِّقتُ في إعداد هذا الكتاب، متضمّناً ما يجب أن يُعرف عن نبيه برّي، وما يجب أن يُحكى ويُقال عن محطّات غنيّة وغاية في الأهميّة، عبرها نبيه برّي منذ عام 2005، ويسرد وقائعها وأحداثها ويوميّاتها بين دفّتيْ هذا الكتاب”.

تقديراً للقامة الوطنية التي يمثّلها الرئيس نبيه برّي، وإسهاماً في فتح النقاش والحوار حول هذه المحطّات، ينشر “أساس” أجزاء من الكتاب في سلسلة من الحلقات.

في الحلقة الثالثة يروي الرئيس برّي مسار السعي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتفاصيل المكالمة التي أجرتها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس معه.

 

آلو.. أنا كونداليزا رايس

في النّصف الثاني من تشرين الثاني 2007، كانت الأحداث في لبنان تتسارع، فحضر وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في زيارة جديدة لبيروت، وأجرى محادثات مع الشخصيات نفسها، وأجمل نتائجها بقوله: “بعد اللقاءات التي أجريتها مع القادة السياسيّين والبطريرك الماروني والقادة المسيحيّين، أستطيع أن أقول إنّ عمليّة انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان قد بدأت تسير على السكّة”:

التقيت كوشنير في ذلك الوقت، وقال لي إنّه التقى مع أقطاب “فريق 14 آذار”، قبل لقائه البطريرك الماروني نصر الله صفير، وتحدّث معهم بالتفصيل عمّا يمكن القيام به لمساعدة البطريرك في وضع لائحة يمكن اختيار اسم منها رئيساً توافقيّاً للجمهوريّة، وإنّه سمع من هؤلاء الأقطاب آراء مختلفة.

فقلت له: “هنا تكمن المشكلة، فها أنت ترى أنّهم ليسوا على موقف واحد”.

فقال: “لقد غلّبتُ، في ما سمعته، المواقف التي تخدم انتخاب رئيس توافقي. وعلى هذا الأساس، التقيت البطريرك نصر الله صفير، وقلت له إنّ عليه واجباً ومسؤوليّة كبيرة في تسهيل إجراء الانتخابات الرئاسيّة، وإنّه يتحمّل جانباً من مسؤوليّة عدم حصول انتخابات إذا لم يبادر إلى خطوة عمليّة في اتّجاه إعداد لائحة المرشّحين، خصوصاً أنّ الرئيس نبيه برّي أعلن أنّه لن يفتح أبواب المجلس النيابي ما لم تصل إليه لائحة بأسماء المرشّحين للرئاسة، من شأنها أن تفتح الباب أمام حلّ”.

فقلت له: “وماذا كان ردّ البطريرك؟”.

فقال: “سمعت منه كلاماً مشجّعاً، وأعتقد أنّه بصدد إعداد لائحة”.

فقلت: “الوقت يداهمنا. هل أبلغك البطريرك ما إذا كان قد حدّد فترة زمنية أو تاريخاً محدّداً لإعداد هذه اللائحة؟”.

فقال: “لقد فهمت منه أنّ ذلك سيتمّ في وقت قريب، وأنا مضطرّ إلى أن أسافر إلى فرنسا، وسيبقى السفير جان كلود كوسران في بيروت لمتابعة هذا الأمر”.

غادر كوشنير. وفي اليوم التالي اتّصل كوسران طالباً موعداً مستعجلاً. فحضر إلى عين التينة، وقال لي إنّه التقى البطريرك صفير، وتبلّغ منه بأنّه سيرسل إليّ وإلى رئيس “تيّار المستقبل” النّائب سعد الحريري لائحة بأسماء مرشّحين توافقيّين لاختيار أحدهم وانتخابه رئيساً للجمهوريّة.

فقلت له: “هذه خطوة ممتازة، ونستطيع أن نقول الآن إنّنا بدأنا نقترب فعلاً من انتخاب رئيس للجمهوريّة”.

فقال: “لكنّ البطريرك قال لي إنّ لديه شرطاً”.

فقلت: “وما هو؟”.

في النّصف الثاني من تشرين الثاني 2007، كانت الأحداث في لبنان تتسارع، فحضر وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في زيارة جديدة لبيروت، وأجرى محادثات مع الشخصيات نفسها، وأجمل نتائجها بقوله: “بعد اللقاءات التي أجريتها مع القادة السياسيّين والبطريرك الماروني والقادة المسيحيّين، أستطيع أن أقول إنّ عمليّة انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان قد بدأت تسير على السكّة”

فقال: “إنّ البطريرك صفير يشترط الحصول على ضمان جدّي، وهو الأخذ باللائحة فعلاً، واختيار واحد من الأسماء الواردة فيها، وليس من خارجها”.

كان البطريرك صفير يخشى من تكرار تجربته المخيّبة مع لائحة تشرين الثاني 1988. وبالفعل، وبناءً على رغبة البطريرك، كُتِبت ورقة ضمانات باللغة الفرنسية، بالتنسيق مع الجانب الفرنسي، وتفاهمت على مضمونها مع النّائب سعد الحريري.

وأتبعنا ذلك بإصدار موقف مشترك منّي ومن الحريري، تمنّينا فيه على البطريرك صفير وضع لائحة بمرشّحين، بعد التشاور مع القيادات المارونيّة، وأكّدنا أنّنا نلتزم بما سيعدّه البطريرك من أسماء نبحث فيها عن الاسم التوافقي لرئاسة الجمهوريّة.

لكن أمام هذا الجوّ، أخذت بعض الأصوات، وكلّها من “14 آذار”، تتعالى وتشوّش على دور البطريرك صفير، وتعترض على تَوْلِيَتِه إعداد لائحة بأسماء المرشّحين.

إزاء ذلك، بادرتُ إلى محاولة قطع الطريق على إمكان أن يتأثّر البطريرك صفير بهذا التشويش، وأعلنتُ أنّ البطريرك كان ولا يزال أوّل السّاعين إلى إجراء الانتخابات الرئاسيّة بالتوافق. وقد أتت المبادرة الفرنسية لتضع أسلوباً أو خريطة طريق لوضع يده على هذا الموضوع.

وبالفعل، بعد فترة قصيرة على صدور البيان عنّي وعن النائب الحريري، زارني القائم بالأعمال الفرنسي أندريه باران، ونقل إليّ لائحة المرشّحين التي أعدّها البطريرك صفير وضمّت 12 اسماً، من بينهم بطرس حرب، نسيب لحّود، فارس بويز، روبير غانم، ميشال إده، ميشال خوري، بيار دكّاش، رياض سلامة، جوزف طربيه، دميانوس قطار… وسُلِّم الحريري نسخة مماثلة، ثمّ شرع كلّ منّا في إجراء محادثات مع فريقه السياسي.

من باب تسهيل التوافق على اسم شخصيّةٍ أو اثنتين من لائحة البطريرك صفير، توجّهت بمبادرة نحو فريق “14 آذار”، وقلت إنّني أعلن باسمي وباسم المعارضة، أنّنا نتخلّى حالياً عن مطلب حكومة الوحدة الوطنيّة، ولا نريدها الآن، بل يكفينا قولكم إنّه بعد رئاسة الجمهوريّة ستقوم حكومة وحدة وطنيّة مع الثلث الضّامن للمعارضة، وأمّا الآن فتعالوا نتّفق على رئيس للجمهوريّة.

إزاء ذلك، بادرتُ إلى محاولة قطع الطريق على إمكان أن يتأثّر البطريرك صفير بهذا التشويش، وأعلنتُ أنّ البطريرك كان ولا يزال أوّل السّاعين إلى إجراء الانتخابات الرئاسيّة بالتوافق. وقد أتت المبادرة الفرنسية لتضع أسلوباً أو خريطة طريق لوضع يده على هذا الموضوع

على الرغم من ذلك، ظلّت بعض الأصوات المسيحيّة، داخل فريق “14 آذار” وخارجه، تعزف على وتر الاعتراض على دور البطريرك صفير وتسليمه ملفّ المرشّحين، معتبرةً أنّ هذا الأمر يتنافى مع الديموقراطيّة. ومن بين هؤلاء المعترضين مَنْ جاء يراجعني، وكان موقفي جاهزاً، وقلت لهم في رسالة مطوّلة:

“والله، لقد احترنا معكم، لم نعد نعرف ماذا تريدون. منذ مدّة قلتم إنّكم تريدون رئيساً بالنّصف زائداً واحداً، وسعيتم إلى نيل دعم خارجي لفرض هذا الأمر. وعندما فشلتم في تحقيق ذلك، بدأتم الحديث عن وجوب التقيّد بأحكام الدستور، ولم تنطقوا بعد بالموافقة على نصاب الثلثين الذي يجب أن يتوافر لعقد جلسة مجلس انتخاب الرئيس. أكثر من ذلك، كنتم مُجمِعين على موقف واحد، فإذا بكم تتفرّقون وأصبحت مواقفكم بالمفرّق. فصار كلّ واحد منكم يريد أن يطرح ويُقدّم نفسه مرشّحاً توافقيّاً ومستعدّاً للالتزام بكلّ ما كان يعترض عليه. وعندما وجدتم أنّ الطريق مسدودة أمامكم، بدأتم بالتصويب في اتّجاهي، واعترضتم على تدخّلي شخصياً، وصرتم تروّجون أنّ نبيه برّي المسلم يحاول أن يختار الرئيس المسيحي، يعني أنّني أصادر حقّ المسيحيّين، وهذا الكلام لست مضطرّاً إلى أن أنفيه، لأنّه في الأساس كلام ينفي نفسه بنفسه. والآن تعترضون على البطريرك ودوره. فعلاً أمركم محيّر. حالكم يشبه تماماً ما سأقوله، وهو أنّ المسلمين في لبنان يصغون إلى غبطة البطريرك أكثر من المسيحيّين، والمسيحيّين يصغون إلى غبطته أكثر من الموارنة، والموارنة يصغون إلى غبطته أكثر من المرشّحين للرئاسة، وبالتالي أنتم فعلاً كالعرب قبل الإسلام، الذين كانوا يصنعون آلهة من تمر، ثمّ يأكلونها حينما يجوعون. هذا هو بالفعل ما تحاولون أن تفعلوه الآن مع بكركي”.

أذكر أنّني بعد فترة قصيرة من تسلّمنا لائحة البطريرك صفير، كنت في مكتبي في عين التينة أراجع بعض الأوراق، فرنّ هاتف المكتب، وأبلغني السكرتير أنّ مسؤولاً في وزارة الخارجيّة الأميركية يريد محادثتي.

فتلقّيت الاتّصال، فإذا بي أسمع: “آلو، أنا كونداليزا رايس”.

لوهلة استغربت، ثمّ بدأنا الحديث بالمجاملات المعهودة. كانت المكالمة لعدّة دقائق، وكان كلامها مفاجئاً لي في إيجابيّته، حيث أشادت بما أبذله من جهود لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. وبعدما أفاضت في عواطفها تجاه لبنان، وحرصها على استقراره وازدهاره، وعلى التوافق بين اللبنانيّين، قالت لي إنّ “الإدارة الأميركيّة تدعم انتخاب رئيس للجمهوريّة في لبنان يحظى بدعم جميع اللبنانيّين”.

رحّبت بهذا الموقف، وقلت لها إنّ “هذا ما نسعى إليه”.

فقالت إنّ “واشنطن تأمل أن يُصار إلى توافق كبير بين اللبنانيّين، وهي تشجّع على ذلك”.

فقلت لها: “نأمل ذلك، وأؤكّد، من جهتي، أنّني شخصياً أعمل في هذا الاتّجاه، وقمت بسلسلة مبادرات وخطوات، وأنا ماضٍ في هذا المنحى.. ولكنّ المهمّ هو أن يُترك اللبنانيّون يتّفقون في ما بينهم”.

وانتهت المكالمة عند هذا الحدّ، بعدما كرّرت لي كونداليزا رايس مرّة ثانية، ما قالته عن دعم واشنطن لانتخاب رئيس توافقي.

وقد أبلغني النّائب الحريري يومذاك أنّه تلقّى اتّصالاً مماثلاً من رايس، وعلمت أيضاً أنّها اتّصلت بالبطريرك صفير.

إقرأ أيضاً: الثقب الأسود(2): ماذا قال خوجة لبرّي عن “الدوحة”؟

كانت المكالمة مع كونداليزا رايس مريحة، وقد أملت بعدها أن يكون في الموقف الأميركي تحوُّلٌ، وأن تتطوّر الأمور في الاتّجاه الذي يدفعها إلى أن تسلك مساراً إيحابيّاً. وأعترف أنّني ظننت آنذاك أنّ هذا الموقف الأميركي الإيجابي الذي تبلّغته من رايس، حول دعم واشنطن لانتخاب رئيس توافقي، هو محاولة أميركيّة لملاقاة المبادرة الفرنسيّة، وأنّ واشنطن قرّرت تسهيل إجراء الانتخابات الرئاسيّة، ولا تعارض انتخاب رئيس جديد، وإن لم يكن من فريق “14 آذار”، كما سبق أن أعلنت على لسان ديفيد ولش. إلّا أنّ الوقائع التالية لهذا الاتّصال أثبتت أنّ موقف واشنطن لم يتغيّر، وبقي على سلبيّته المعطِّلة للاستحقاق الرئاسي.

 

مواضيع ذات صلة

ساعات حاسمة… ومصير السّلاح مجهول

في الأيام الماضية ضغط جيش العدوّ الإسرائيلي بجولات من قصف صاروخي عنيف ومكثّف لا مثيل له منذ بدء العدوان الجوّي في 23 أيلول الماضي، وتوّج…

كيف يستعدّ الحزب لليوم التّالي؟

بدأ الحزب إعادة ترتيب أولويّاته تحضيراً لليوم التالي في الحرب بعيداً عن التفاصيل الميدانية الحربية والمفاوضات السياسية الحاصلة لإصدار قرار وقف إطلاق النار.   أشارت…

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…