فلسطين: الاختبار الأخلاقيّ العالميّ

مدة القراءة 8 د

ليس تفصيلاً عابراً ما يجري في شوارع المدن الغربيّة من أشكال التضامن مع غزّة وأهلها في وجه الإبادة الإسرائيليّة التي يتعرّضون لها. ما يحدث على الأرض الفلسطينيّة لم يعُد صراعاً بين محتلّ وشعب أعزل، بل صار امتحاناً عالميّاً: من يقف مع العدالة والإنسانيّة ومن يقف ضدّها؟

 

مسيرات الشوارع، احتجاجات الفنّانين والرياضيّين، تجمّعات التضامن، سفن “الصمود”، بيانات الإدانة وتوالي الاعتراف الغربيّ بدولة فلسطين في الأمم المتّحدة.. يقول القائلون إنّها لن توقف المجزرة ولن تردع إسرائيل عن مواصلة إجرامها. صحيح، لكنّ ذلك لا يغيّر من حقيقة أنّ لكلّ كلمة تُنطَق معنى، ولكلّ فعل ردّ فعل، ولكلّ مبادرة وزن، ولكلّ تراكم قيمة زائدة.  والكارثة ليست في النكبة بل الصمت عليها وتركها تمرّ بلا سؤال أو حساب. ما يحصل من أجل فلسطين حركة ضمير عالميّ لا يجوز الاستخفاف بها.

في هولندا أعلن وزير الخارجية كاسبار فيلدكامب استقالته احتجاجاً على سياسات حكومته تجاه إسرائيل. لم يكن ذلك مناورة سياسيّة، بل كان إعلاناً أخلاقيّاً من قلب المؤسّسة الأوروبيّة بأنّ التغاضي عن قتل الأبرياء في غزّة هو خيانة للقيم الإنسانية. لم يمُت الضمير الأوروبيّ ولا تزال فيه ذرّة رفض للمشاركة في الجريمة.

عمر القضيّة الفلسطينيّة مئة عام، ولن تُحلّ غداً. ذلك أنّه مقابل موجة الاعترافات الاستثنائيّة بالدولة الفلسطينيّة وحركة الاحتجاج الدوليّة، تمضي إسرائيل قدماً في قضم ما بقي من جسم فلسطين التاريخيّة

جيل متحرّر من عقدة اللاساميّة

 بريطانيا، صاحبة الوعد المشؤوم، لم تستطِع الإفلات من الاعتراف بدولة فلسطين. قيّدت خطوتها بشروط معقّدة، لكنّ شوارع مدنها كانت تعبّر عن وعي بريطانيّ مختلف وإعادة نظر في السرديّات التي ساهمت بلادهم في صنعها وتحريفها وتعميمها. عشرات التظاهرات ولندن لم تكلّ. الآلاف تظاهروا في عزّ الحرّ أو في ظلّ البرد القارس. لم يمنعهم من ذلك لا الشيطنة ولا قرارات المنع. لم تكن المسيرات حكراً على السمر والمهاجرين أو المسلمين. كانت خليطاً يعبّر عن التنوّع المجتمعيّ البريطانيّ الواسع، بما في ذلك اليهود المناهضون للصهيونيّة. لم تكن محرّكها الشبكة الواسعة من الأحزاب والنقابات والجمعيّات والكنائس والمساجد، بل حالة التضامن الإنسانيّة العابرة للجنسيّات والأديان والمجموعات.  كان عمادها طلّاب الجامعات نخب المستقبل. جيل جديد متحرّر من سطوة “التفوّق الأخلاقي” لإسرائيل وعقدة “اللاساميّة”.

الشوارع النروجيّة والسويديّة والإيرلندية والبرتغالية واليونانية والإسبانية والكنديّة لا تهدأ. تظاهرة تلو تظاهرة. في اليابان، يقف موسيقيّ كلّ يوم أمام سفارة إسرائيل منفرداً، محتجّاً. فنّانون هنا أو هناك يقاطعون شركات الإنتاج المؤيّدة لإسرائيل. في الأسواق الشعبيّة في مونتريال وبرشلونة وأثينا، لا يتوقّف الطلب على الكوفيّة والعلم الفلسطينيّ. أطفال يرتدون أزياء بألوان البطّيخ (شعار فلسطين). ألحان وقصائد في كلّ مكان دعماً للقضيّة.

تحوّلت حلبة سباق الدرّاجات “لا فويلتا” في مدريد مسرحاً للاحتجاجات على الحرب على غزّة. طالب 150 ألف متظاهر بإنهاء المرحلة الأخيرة من المسابقة العالميّة لأنّ وفداً إسرائيليّاً يشارك فيها. لم يكن ذلك حدثاً رياضيّاً عابراً إذ أعطاه رئيس الوزراء بيدرو سانشيز بعداً سياسيّاً عندما أبدى إعجابه بالإسبان الذين يحشدون من أجل قضايا عادلة مثل قضيّة فلسطين، معرباً عن “فخره برؤية بلدٍ متعدّد الأعراق كبلدنا، ومع ذلك نتّفق جميعاً على قضيّة عادلة كحقوق الإنسان”. لا بل قاد وحكومته خطاباً يربط التضامن مع فلسطين بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولم يتوانَ عن وصف الهجمات الإسرائيليّة بـ”الإبادة الجماعيّة”، مثيراً بذلك غضب حكومة بنيامين نتنياهو واليمين القوميّ الإسباني. لكنّه عكس شجاعة دولة أوروبيّة قادرة على تمزيق مظلّة الحماية الغربيّة لإسرائيل، إدراكاً منه أنّ غزّة تحوّلت ساحةً أخلاقيّةً وسياسيّةً لا مجال فيها للحلول الوسط.

لم تتشكّل هذه الخطوات بقرار سياسيّ، بل وُلدت من رحم المأساة وتقوم على إدراك إنسانيّ مشترك أنّ ما يجري في غزّة ليس شأناً بعيداً، بل جريمة تهدّد الضمير العالميّ كلّه

حالة ثقافيّة عابرة للحدود والأيديولوجية

لم تعُد حركة الاحتجاج حالة محليّة تدار وفق المصالح السياسية الضيّقة، بل صارت حالة ثقافيّة عابرة للحدود الجغرافيّة والانتماءات السياسيّة والأيديولوجيّة، وتجلّى ذلك في أسطول الصمود العالميّ لكسر الحصار عن غزّة. وساهمت سفن الأسطول التي انطلقت من موانئ عالميّة عدّة وتضمّ ناشطين من 44 بلداً، في إعادة الزخم العالمي لحركة التضامن الإنسانيّ الدوليّ مع الشعب الفلسطينيّ.

 أظهر استطلاع للرأي، أجراه مركز الدراسات السياسيّة الأميركيّة بجامعة هارفرد “سي إيه بي إس” (CAPS)، أنّ 71 في المئة من الفئة العمريّة من الشباب الأميركي، الذين ينتمون للحزب الديمقراطي، لا يُوافقون على سلوك إسرائيل في هذا الصراع. ويُعارض 57 في المئة منهم الدعم العسكري الذي تُقدِّمه الولايات المتّحدة لإسرائيل، في حين يقول ما يقرب من نصف البالغين البريطانيّين إنّ إسرائيل تُعامِل الفلسطينيّين كما عامل النازيّون اليهودَ في “الهولوكوست”. ويرى هذا الرأي العامّ الدولي أنّ إسرائيل ترتكب اليوم “جريمة الجرائم” على الهواء مباشرة، وهو الوصف الذي كانت أطلقته محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية على أحداث الحرب في يوغوسلافيا السابقة ورواندا.

لكنّ في الواقع ما تنفّذه إسرائيل في غزّة تجاوز كلّ المجازر السابقة فبات “أمّ الجرائم” لاشتماله كلّ أنواع الإبادة: الجسديّة، الاجتماعيّة، السياسيّة، الاقتصادية، البيئية، الثقافية، الدينية، الأخلاقية، الصحيّة والإعلاميّة.

لم تتشكّل هذه الخطوات بقرار سياسيّ، بل وُلدت من رحم المأساة وتقوم على إدراك إنسانيّ مشترك أنّ ما يجري في غزّة ليس شأناً بعيداً، بل جريمة تهدّد الضمير العالميّ كلّه، وعلى رمزيّتها تحمل دلالات عميقة تعني أنّ القضيّة الفلسطينية لم تعد شأناً خارجيّاً يمكن تجاهله. يرى المواطن الأوروبي هول المجزرة ويسمع في الوقت نفسه تبريرات حكوماته لدعمها غير المشروط لإسرائيل على حساب رفاهه والتقديمات. يخلق هذا التناقض فجوة بين الطرفين، وبين المصالح والضمير، لا يمكن ردمها بالخطابات البرّاقة. وكلّما اتّسعت رقعة حركة التضامن العالميّ مع فلسطين، ترسّخت القضيّة الفلسطينيّة في الأذهان والسياسات وتأكّد أنّ الفلسطينيّين ليسوا وحدهم.

في المقابل، كلّما انتقل الرأي العامّ الدولي من موقع التأييد المطلق لإسرائيل إلى موقع المندِّد بها، زادت عزلتها السياسية والدبلوماسية وصارت محاصَرة ومنبوذة سياسيّاً في علاقاتها الخارجية أيّاً كان الدعم الأميركي الرسمي المطلق لها. توسيع عزلتها هو أيضاً في محصّلته النهائية إحراج لأميركا ولو على مضض. ليس بسيطاً أن تتنطّح واشنطن للتصدّي لقرار الاعتراف بالدولة الفلسطينيّة في مجلس الأمن والجمعيّة العموميّة. حتّى في داخلها، باتت أجيالها الجديدة أكثر جرأة في معارضة الدعم غير المشروط لإسرائيل. هذه التحوّلات التي ينقصها تحرّك عربي يوازيها لا تعني تغييراً فوريّاً في السياسات، لكنّها خطوة في مسار طويل ومعقّد للحدّ من قدرتها على فرض الهيمنة المطلقة والزهوّ بالتفرّد بحكم العالم. أهمّ ما في قرارات الاعتراف الأخيرة أنّها حدثت على الرغم من الاعتراض الأميركيّ وهيجان الرفض الإسرائيليّ.

إقرأ أيضاً: حل الدولتين: بريطانيا تُنقذ إسرائيل من نفسها

على طريق العزلة

إذا استمرّ هذا التيّار العالميّ في الاتّساع، فإنّ إسرائيل ستجد نفسها في عزلة شبيهة بتلك التي واجهها نظام الفصل العنصري “الأبارتايد” في جنوب إفريقيا. قد يستغرق ذلك سنوات، لكنّه مسار تاريخيّ لا يمكن وقفه. والسؤال الأساسيّ الذي يتعيّن أن يتقدّم على ما عداه لم يعُد “هل أنت مع فلسطين أم مع إسرائيل؟”، بل “هل أنت مع الضحيّة أم مع القاتل؟ مع القيم الإنسانيّة والعدالة أم مع الإبادة الجماعيّة وإرهاب الدولة؟”.

عمر القضيّة الفلسطينيّة مئة عام، ولن تُحلّ غداً. ذلك أنّه مقابل موجة الاعترافات الاستثنائيّة بالدولة الفلسطينيّة وحركة الاحتجاج الدوليّة، تمضي إسرائيل قدماً في قضم ما بقي من جسم فلسطين التاريخيّة، تجرف ما بقي من القطاع وتضع الضفّة على سكّين الذبح. في مواجهة التشاؤم، لا بدّ من بعض التفاؤل يعزّزه صمود أسطوريّ لأهل غزّة والتعامل مع التحرّكات الدبلوماسية الحاصلة وحركة التضامن على أنّها خطوات في الاتّجاه الصحيح يتعيّن استثمارها سياسيّاً وحقوقيّاً لتعزيز الصمود وتحصين الداخل الفلسطيني وتعزيز المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ.

مواضيع ذات صلة

الشرع- ترامب: ماذا دار في “الاجتماع السّرّيّ”؟

استغرقت رحلة الرئيس السوريّ أحمد الشرع أحد عشر شهراً من إدلب إلى واشنطن. من يستمع إلى كلمات الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، منذ لقائهما الأوّل في…

لبنان يدور على ذاته… وسوريا في البيت الأبيض!

يُفترض أن يميّز الوضوح الخطاب السياسيّ اللبنانيّ في وقت تزداد الضغوط الأميركيّة، ذات الطابع الماليّ والاقتصاديّ، على البلد من جهة، والضغوط العسكريّة الإسرائيليّة من جهة…

نتنياهو يُعمّم الفوضى… ليستمرّ

منذ تشكيله ائتلافه اليمينيّ المتطرّف في كانون الأوّل 2022، يجد رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو نفسه أمام أزمات تتراكم ولا تنتهي، من فضائح فساد شخصيّة،…

فيدان في واشنطن: بداية مثلّث إقليميّ؟

لن يكون التصعيد التركيّ – الإسرائيليّ حدثاً طارئاً أو عمليّة كرٍّ وفرٍّ في مواجهتهما على أكثر من جبهة وحسب، بل حلقة جديدة في مسار صراع…