حل الدولتين: بريطانيا تُنقذ إسرائيل من نفسها

مدة القراءة 8 د

بعد 108 سنوات على صدور “وعد بلفور” باسم حكومة جلالة الملك البريطاني، لإنشاء وطن قوميّ يهوديّ في فلسطين، قرّر رئيس الوزراء البريطاني الحالي كير ستارمير Keir Starmer، الاعتراف بدولة فلسطين، إلى جانب فرنسا وإسبانيا ودول غربية أخرى. وهذا الموقف تاريخيّ ورمزيّ، وكأنّه إقرار ضمنيّ بالخطأ السابق، من دون الاعتراف به رسميّاً. جاء الاعتراف، والشعب الفلسطيني في القطاع في مرحلة الإبادة والتهجير. فهل هو من باب رفع المسؤوليّة أم بداية عمل حقيقيّ؟

 

انعقد المؤتمر الصهيونيّ الأوّل عام 1897 من أجل ضمان الحقّ القانونيّ لتأسيس وطن قوميّ لليهود، والحصول على دعم القوى الكبرى في ذلك الزمان. ولم تكن بريطانيا هي الوجهة الأولى لمؤسّس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل  Herzl Theodor  (توفّي عام 1904). ففي البدء، توجّه إلى ألمانيا، أوّلاً لأنّها القوّة التي لديها علاقات جيّدة مع السلطان عبدالحميد الثاني (توفّي عام 1918)، وكان نفوذها في تصاعد داخل السلطنة العثمانية، وفلسطين ضمن أراضيها، وثانياً، لأنّه كان يوجد فيها من اليهود أكثر من أيّ دولة غربيّة، وثالثاً لأنّها أكثر عداء للساميّة (لليهود) من فرنسا ومن بريطانيا.

بعد 108 سنوات على صدور “وعد بلفور” باسم حكومة جلالة الملك البريطاني، لإنشاء وطن قوميّ يهوديّ في فلسطين، قرّر رئيس الوزراء البريطاني الحالي الاعتراف بدولة فلسطين

كسب العرب

توقّع هرتزل أن تكون ألمانيا أكثر اهتماماً بحلّ المسألة اليهوديّة، عبر إرسال اليهود إلى فلسطين. لكنّه فشل في إقناع القيصر الألمانيّ، كما فشل في إقناع السلطان عبدالحميد الثاني، الذي اكتفى بالموافقة على هجرة اليهود إلى فلسطين، دون الحديث عن تأسيس دولة، وبشرط أن يكون اليهود مواطنين عثمانيّين. أمّا فرنسا فكانت في تلك الحقبة حامية سوريا، وفلسطين ضمنها، وراعية الطائفة المارونيّة الكاثوليكيّة، فلم يكن بمقدورها اتّخاذ قرارات تتناقض مع دورها. فكان طبيعيّاً أن تكون بريطانيا هي الدولة الراعية الوحيدة للمشروع الصهيونيّ. من أجل ذلك، عمل هرتزل، وحاييم وايزمن Chaim Weizmann (توفّي عام 1952) من بعده، على استمالة النخبة البريطانية وترويج الأفكار الصهيونيّة فيها.

مع ذلك، لم يحصل الزعماء الصهيونيّون على الدعم البريطاني بشكل فوريّ. وما سرّع ذلك هو دخول الدولة العثمانيّة الحرب العالميّة الأولى إلى جانب دول المحور وعلى رأسها ألمانيا. كانت بريطانيا في مصر منذ عام 1882، وكانت تحمي قناة السويس التي هي شريان الحياة للاستعمار البريطاني في الهند. خلال الحرب، كانت لبريطانيا. في المدى الطويل، خطّة تأسيس رؤية سياسية واقتصاديّة في هذا الجزء المهمّ من العالم.

في جانب آخر، كانت بريطانيا تسعى إلى كسب العرب إلى جانبها ضدّ السلطنة العثمانية، وجرت مراسلات سرّية بين الشريف حسين (توفّي عام 1931) حاكم الحجاز، والمفوّض البريطاني في مصر هنري مكماهون Henry McMahon (توفّي عام 1949). وفي هذه المراسلات، أصرّ الحسين على أن تنال البلدان العربية في المشرق استقلالها، وتضمّ سوريا الحاليّة وفلسطين ولبنان والأردن والعراق. قبِل البريطانيون بطرح الحسين في نهاية المطاف. لكنّ فلسطين لم تُذكر في تلك المراسلات لأنّها كانت ضمناً جزءاً من سوريا.

ترى بريطانيا اليوم أنّ من مصلحة إسرائيل المضيّ بحلّ الدولتين، كما ذكر رئيس الوزراء البريطاني في مقالة له في جريدة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيليّة تبريراً لقرار الاعتراف بفلسطين كدولة.

في الوقت نفسه، كانت بين فرنسا وبريطانيا محادثات سرّيّة لتقاسم المنطقة بعد الحرب، فطالبت فرنسا بكلّ سوريا ومن ضمنها فلسطين. وكانت المشاريع الفرنسيّة جاهزة، حيث حصل كونسورتيوم فرنسيّ على الامتيازات المطلوبة لبناء موانئ حيفا ويافا وطرابلس، وإنشاء سكك حديد تصل إلى جنوب سوريا، وصولاً إلى يافا والقدس. وإذا كانت هذه المشروعات الفرنسيّة تهدّد السيادة العثمانيّة فيما مضى، إلّا أنّها بعد الحرب العالميّة الأولى، تهدّد المصالح البريطانية في المنطقة، وتحديداً خطوط المواصلات للإمبراطوريّة البريطانيّة، ولا سيما قناة السويس.

جرى حلّ الخلاف مؤقّتاً من خلال تدويل هذه المنطقة، فتصبح منطقة حاجزة بين سوريا “الفرنسية” ومصر “البريطانية”. وحتّى ذلك الحين، لم تنجح الحركة الصهيونية في الحصول على الدعم البريطاني، مع وجود تيّارات متصارعة داخل الحركة الصهيونية نفسها تعرقل الاستحصال على الدعم البريطاني. فاليهود الروس كانوا مشاركين بقوّة في الثورة البلشفيّة الشيوعيّة، ويرفضون وصاية بريطانيا. وحتّى يهود بريطانيا، ولا سيما الذين هم في النخبة السياسية، يعارضون المشروع الصهيوني.

في نهاية الأمر، نجح وايزمن، وهو أحد الزعماء التاريخيّين للحركة الصهيونيّة، وأوّل رئيس لإسرائيل لاحقاً، في رأب الصدع بين التيّارات الصهيونية المتناحرة، وفي 7 تشرين الثاني 1917 صدر إعلان بلفور على شكل رسالة موجّهة من وزير الخارجية آرثر جيمس بلفور Arthur James Balfour (توفّي عام 1930) إلى اللورد والتر روتشيلد  Walter Rothschild )توفّي عام 1937)، وفيها: “إنّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف لإنشاء وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل أفضل الجهود لتحقيق هذا الهدف، على أن يكون واضحاً أيضاً أنّ إنشاء الوطن القومي اليهوديّ لا يُلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات المحليّة الموجودة، من غير اليهود، أو حقوق اليهود ووضعهم السياسي في أيّ بلد آخر”.

لكنّ فرنسا كانت أسبق بشهور في تأييد الوطن القوميّ اليهوديّ، ففي حزيران 1917 كتب الأمين العامّ للخارجية الفرنسيّة جول كامبون Jules Cambon (توفّي عام 1935) إلى ناحوم سوكولوف  Nahum Sokolof(توفّي عام 1936)، وهو أحد زعماء الحركة الصهيونية، معبّراً له عن تعاطفه مع قضيّته التي هي: “بعث الهويّة اليهودية في تلك الأرض التي نُفي منها اليهود قبل قرون”.

هذه الرسالة هي ما عُرف أيضاً بـ”وعد كامبون”، وهو شبيه بوعد بلفور. لكنّ الأجيال تتذكّر دور بريطانيا في منح وطن قوميّ لليهود في فلسطين، ولا تذكر دور فرنسا ولا وعدها لليهود، بسبب الانتداب البريطاني اللاحق على فلسطين، ودورها الفعّال في إقامة دولة إسرائيل في نهاية المطاف.

لا يتضمّن وعد بلفور، بحسب النصّ المشار إليه، صراحةً إقامة دولة إسرائيليّة على أرض فلسطين. لكنّه أيضاً لا يعترف بحقّ الفلسطينيّين أنفسهم في إقامة دولتهم المستقلّة، أو بحقّ تقرير المصير، بحسب مبادئ ويلسون. بالمقابل، الاعتراف بحقّ اليهود في العودة إلى وطنهم التاريخيّ، بحسب الرؤية التوراتيّة، كان كافياً للتمهيد لتأسيس دولة مكتملة الأركان، فيما تحوّلت القضيّة الفلسطينيّة إلى مسألة لاجئين تحتاج إلى حلّ.

لا يتضمّن وعد بلفور، بحسب النصّ المشار إليه، صراحةً إقامة دولة إسرائيليّة على أرض فلسطين. لكنّه أيضاً لا يعترف بحقّ الفلسطينيّين أنفسهم في إقامة دولتهم المستقلّة

دوافع إنسانيّة أم جيوسياسيّة؟

هل كانت دوافع بريطانيا دينيّة إنسانيّة أم جيوسياسيّة؟ تقول الدراسات الإسرائيليّة إنّ إعلان بلفور لم يكن ذا دافع إنسانيّ، فالساسة البريطانيون الذين صنعوا هذا الإعلان كانوا تقريباً معادين للساميّة بشكل علني، حتّى إنّ بلفور نفسه، وزير الخارجية في ذلك الوقت، كان يشارك الألمان عداءهم للساميّة. وفي عام 1925، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج David Lloyd George (توفّي عام 1945) أمام حشد من اليهود: إنّ مادّة “الأسيتون “Aceton، هي التي جعلته صهيونيّاً. وكان حاييم وايزمن قد طوّر خلال الحرب العالميّة الأولى طريقة مختصرة لإنتاج المادّة الكيميائيّة الضروريّة في صناعة المتفجّرات، وهي الأسيتون.

ليس إعلان بلفور مكافأة لليهود على مشاركتهم في الحرب إلى جانب الحلفاء، بل تحقيق لمصالح بريطانيّة استراتيجيّة في الشرق. ولم يكن وعد بلفور قراراً بريطانيّاً أُحاديّاً، بل سعت لندن إلى ضمان أوسع تأييد له، ابتداء من الولايات المتّحدة. فقبل نشر الإعلان، حصلت الدبلوماسيّة البريطانيّة أوّلاً على تأييد الرئيس الأميركي وودرو ويلسون Woodrow Wilson (توفّي عام 1924)، وهو المؤيّد أصلاً لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، فكأنّ المقصود بهذه الأفكار هو الشعب اليهوديّ. بعد ذلك، بدأت ببناء أوسع قاعدة تأييد دولي لفكرة الوطن القوميّ لليهود. وفي 24 تمّوز 1922، وفي سياق الالتزام ببناء الوطن القوميّ اليهوديّ، أدخلت بريطانيا نصّ الإعلان داخل قرار الانتداب البريطاني على فلسطين الصادر عن عصبة الأمم. وعلى هذا، تحوّل إعلان بلفور إلى التزام مُلزِم بموجب القوانين الدوليّة.

إقرأ أيضاً: هل ينقلب اليمين الأميركيّ على إسرائيل؟

لكنّ بريطانيا، كما اقتضت مصالحها عشيّة الحرب العالميّة الثانية، قيّدت الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين. وكان هذا الموقف سبباً مباشراً في شنّ العصابات الصهيونيّة حرباً غير نظاميّة على الاحتلال البريطاني، عقب انتهاء الحرب العالميّة، وهو ما عُرف بحرب الاستقلال عند الإسرائيليّين.

ترى بريطانيا اليوم أنّ من مصلحة إسرائيل المضيّ بحلّ الدولتين، كما ذكر رئيس الوزراء البريطاني في مقالة له في جريدة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيليّة تبريراً لقرار الاعتراف بفلسطين كدولة. “فالتقدّم نحو السلام والتطبيع لا يمكن أن يتمّ من دون الاعتراف بدولة فلسطينيّة إلى جانب دولة إسرائيل. ويجب أن يكون واضحاً أنّ هذا الاعتراف لا يعني فقط دعم مبدأ حلّ الدولتين، بل أيضاً رفض المتطرّفين الذين يحلمون بتدمير إسرائيل، وأولئك الذين يسعون إلى طرد السكّان الفلسطينيّين”. بالطبع، لن يقبل نتنياهو بهذا التبرير، ولن يرضى بأن تسعى بريطانيا ودول أوروبيّة أخرى إلى إنقاذ إسرائيل من نفسها.

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

برّي لن يَخضع: لا انتخابات من دون تسوية

من معركة “الأكثريّة” في الحكومة إلى معركة “الأكثريّة” في مجلس النوّاب. محور “القوّات” و”الكتائب” والفريق النيابيّ الداعم لتصويت غير المقيمين في الخارج للنوّاب الـ 128،…

هل ترفع واشنطن الغطاء عن لبنان؟

واكبت واشنطن، وخلفها دائماً تل أبيب، المسار اللبنانيّ منذ ما قبل الانتخابات الرئاسيّة، جنباً إلى جنب مع العواصم العربيّة والخليجيّة، وتحديداً الرياض. بعد انتخاب جوزف…

كلفة ما قبل التّفاوض: إسرائيل “تصنَع” سَلامَها

التفاوض آتٍ حتماً، لكن كيف وبأيّ ثمن؟ قد تختصر هذه المعادلة واقع مرحلة ما قبل جلوس الإسرائيلي واللبناني وجهاً لوجه، تماماً كما هو حاصل اليوم…

“الحزب”… بين البيانَيْن

بينما كانت الأنظار تتّجه إلى الحكومة واحتمال تعرّضها لتصدّعات بنيويّة بفعل الخلاف على قانون الانتخابات، في الشقّ المتّصل تحديداً بتصويت المغتربين، جذب بيان “الحزب” الذي…