هل بدأ اليمين الأميركي ينقلب على إسرائيل، بسبب حرب غزّة، بعدما انتقلت إليه عدوى التمرّد من اليسار؟ هل سرديّة الحليف الموثوق على وشك الانهيار فضلاً عن أسطورة “أرض إسرائيل”؟ اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك (Charlie Kirk)، في 10 الشهر الجاري، في ظروف غامضة خلال لقاء جماهيريّ معه، قد يحمل في طيّاته مدى الاضطراب الذي تعيشه الأوساط السياسيّة الأميركيّة في هذه المرحلة الدقيقة، وقد تتمخّض في نهاية الطريق عن مواقف غير متوقّعة.
أواخر آب الماضي، حذّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أنّ اللوبي الإسرائيلي يخسر نفوذه في الكونغرس، وذلك أثناء حوار دام ساعة في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض مع Daily caller، وهو موقع يمينيّ أسّسه الإعلاميّ المعروف Tucker Carlson. هذا التصريح الرسميّ غير مألوف عن مآل جماعة ضغط تخدم دولة أجنبيّة، هي إسرائيل، حتّى لو كانت من أوثق الحلفاء.
التحذير من ماذا؟ من تراجع نفوذ اللوبي في الكونغرس. يشرح ترامب، وهو الرئيس الأميركي الذي رفع شعار “أميركا أوّلاً”، في حملته الانتخابية الرئاسية عام 2016، أنّ إسرائيل لم تعُد تحظى بالتأييد الحديديّ من النوّاب والشيوخ تحت قبّة الكابيتول.
التناقض الواضح بين النزعة القوميّة الانعزاليّة لليمين الأميركيّ، وخضوع الإدارة الحاليّة لرغبات الحكومة الإسرائيليّة الشديدة التطرّف وتصرّفاتها، التي لا تنتهك القوانين الدولية وحسب، بل تُضرّ بالمصالح الحيويّة للولايات المتّحدة في الشرق الأوسط، هو من الأسباب العميقة التي تدفع بعض أشدّ المؤثّرين في اليمين الأميركيّ المؤيّد لترامب، إلى انتقاد إسرائيل نفسها، هَمْساً ثمّ جَهْراً، وبشكل متصاعد غير مألوف، مع طرح العلاقات الإسرائيلية الأميركية على بساط البحث، كما لم يفعل خصومهم اليساريّون في صفوف الحزب الديمقراطي من قبل.
حرب غزّة وما يُرتكَب فيها من إبادة علنيّة، تحت الأضواء الساطعة، هي الحدث المباشر، الذي أحدث شرخاً في صفوف الحزب الديمقراطي، خلال الحملة الانتخابيّة للرئيس السابق، جو بايدن، عام 2024، فأدّى إلى خسارته الولاية الثانية. لكنّ العدوى انتقلت أيضاً إلى صفوف الحزب الجمهوري، إذ كشف استطلاع رأي في آذار الماضي، أجراه مركز Pew، أنّ تأييد إسرائيل يتراجع أيضاً بين فئة الشباب من الجمهوريّين.
حرب غزّة وما يُرتكَب فيها من إبادة علنيّة، تحت الأضواء الساطعة، هي الحدث المباشر، الذي أحدث شرخاً في صفوف الحزب الديمقراطي
ثلاثة تيّارات داخل اليمين
قبل بسط بعض هذه الأسئلة التي بدأ يعلو صوتها فجأة، وهي جوهريّة، وتهدّد الولاء المطلق لإسرائيل، لا بدّ من التمييز أثناء ذلك، بين تيّارات ثلاثة داخل اليمين الأميركيّ:
أوّلاً: التيّار الانعزالي الذي ازداد قوّة مع ظاهرة دونالد ترامب، ومن أشهر شخصيّاته الإعلاميّة، تاكر كارلسون. جعل ترامب “أميركا أوّلاً” محور رؤيته في السياسة الخارجية، وأحدث قطيعة مع النهج الجمهوري التقليديّ تجاه روسيا، حلف الناتو، صفقات التجارة الحرّة وقضايا دوليّة أخرى. وخرج عن مسار العداء لروسيا ورعاية حلف الناتو وشنّ حرباً اقتصاديّة على الحلفاء قبل الأصدقاء، وانتقل إلى الضفّة المقابلة. إلّا أنّه ظلّ على حماسته في دعم إسرائيل وبنيامين نتنياهو شخصيّاً.
لكنّ كارلسون، المؤيّد لترامب، اختطّ لنفسه طريقاً مختلفاً، استناداً إلى الرؤية الانعزاليّة نفسها. بعد يومين فقط، من “طوفان الأقصى”، دعا كارلسون إلى ضبط النفس في الردّ على حركة “حماس”، وحذّر من التورّط في حرب إقليمية بين إيران والغرب، معتبراً أنّه ليس من المصلحة القوميّة لأميركا التورّط في حرب أخرى في الشرق الأوسط.
علاقة الموساد بأحداث “7 أكتوبر”
بعد عامين من الحرب الإسرائيلية التي طالت بلداناً عربيّة وإسلامية، (قد لا تكون قطر آخِرتها)، فاجأ كارلسون متابعيه برسم علامة استفهام حول تلكّؤ الموساد في تنبيه الأجهزة الأمنيّة الأميركية عشيّة هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 على برجَي التجارة بنيويورك ومبنى البنتاغون بواشنطن، مع وجود قرائن وشواهد على معرفة إسرائيليّة مسبقة بالتخطيطات التي كانت تجري في أفغانستان، ووعد ببثّ حلقات عن هذا الأمر.
من المثير للاهتمام أكثر أنّ تشارلي كيرك أثار شكوكاً قبل عامين في الرواية الإسرائيليّة الرسميّة لِما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، في غلاف غزّة، وتساءل عمّا إذا كان قد صدر أمرٌ للجيش الإسرائيلي “بالتوقّف عن العمل” للسماح بهجمات “حماس”، بهدف دعم حظوظ نتنياهو السياسية المتراجعة آنذاك.
بعد تلقّيه انتقادات من مؤيّدي إسرائيل، أوضح كيرك في تغريدة له أنّ طرح الأسئلة لا يعني أنّك معادٍ لإسرائيل. تقول الحقائق إنّ إسرائيل حصلت على معلومات استخباريّة بأنّ شيئاً ما كان يُجهّز في غزّة. لكنّ الحكومة لم تُعلن حالة التأهّب القصوى. وهذا يحتاج إلى تفسير. “أنا لست مستعدّاً للقول إنّ نتنياهو كان يعلم أو إنّ هناك معلومات استخباريّة”.
كيرك، قبل اغتياله، كان شخصيّة سياسيّة واعدة، ويستضيف برنامجاً إذاعيّاً شهيراً، ويقود منظّمة Turning Point USA التي تنمّي قدرات مؤثّرين محافظين شباب على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا الموقف المتشكّك لكيرك بشأن ملابسات 7 أكتوبر هو الذي دفع أنصار اليسار الأميركي إلى اتّهام إسرائيل باغتياله. قد يكون أيضاً من المؤشّرات إلى ذلك أنّ كيرك أعلن تنظيم مؤتمره السنويّ بين 18 و21 كانون الأوّل المقبل، AMERICAFEST 2025، وتاكر كارلسون من المدعوّين إلى هذا المؤتمر، وهو ما أزعج الأوساط الموالية لإسرائيل.
تقول الحقائق إنّ إسرائيل حصلت على معلومات استخباريّة بأنّ شيئاً ما كان يُجهّز في غزّة
التّيّار الدّينيّ الإنجيليّ
ثانياً: التيّار الدينيّ الإنجيليّ، وهو قديم، وله كنائسه ومؤسّساته ووسائل إعلامه وشخصيّاته. يتّفق على جملة أمور بالنسبة لإسرائيل. لا يعترف أتباعه بوجود دولة “فلسطين”، ويرون أنّ كلّ فلسطين التاريخيّة هي ملكٌ لليهود وفق نصّ الكتاب المقدّس. على هذا، يرفضون “حلّ الدولتين”، ويؤيّدون الاستيطان في الضفّة الغربية ويعارضون أيّ ضغط أميركيّ على إسرائيل لتقديم تنازلات.
أمّا الأساس الدينيّ لمواقفهم فهو اعتقادهم بأنّ قيام إسرائيل هو تحقيق عمليّ لنبوءات الكتاب المقدّس، خاصّة ما يرِد فيها من أحداث آخر الزمان، ومنها “المجيء الثاني للمسيح”. إذ إنّ عودة اليهود إلى “أرض الميعاد” وقيام إسرائيل شرطان لعودة المسيح.
لذلك يُنظر إلى دعم دولة “إسرائيل” الراهنة على أنّه واجب دينيّ يسرّع عودة المسيح. بل يقولون إنّ اليهود هم شعب الله المختار، وإنّ الله يبارك من يدعمهم، ويعاقب من يعاديهم، استناداً إلى عبارة وردت في سِفر التكوين يُخاطب فيها الله النبيّ إبراهيم: “ارحَلْ مِنْ أرضكَ وعشيرتكَ وبيت أبيك إلى الأرضِ التي أُريكَ، فأجعلكَ أمّةً عظيمةً، وأبارككَ، وأعظّم اسمكَ، وتكون بركة. وأُبارك مُباركيكَ، ولاعِنكَ ألعنُه. وتتباركَ فيك جميعُ قبائل الأرض”.
إقرأ أيضاً:
التّيّار العنصريّ المعادي للسّاميّة
ثالثاً: التيّار العنصريّ المعادي للساميّة، ولليهود طبعاً. من بين المؤثّرين فيه Nicholas Fuentes، وهو متطرّف يمينيّ أبيض، معادٍ للساميّة، مرتبط بـ”التيّار البديل”(Alt-right) ، ويقدّم برنامج بثّ مباشر يسمّى “أميركا أوّلاً”. وقد أشاد بهتلر، وأنكر الهولوكوست، ودعا إلى حرب مقدّسة ضدّ اليهود.
في تشرين الثاني 2022، تصدّر فيونتس المشهد الإعلامي، عندما تناول العشاء مع ترامب في منتجع مارالاغو في فلوريدا. يصف نفسه بأنّه معادٍ للصهيونيّة، وقال إنّ “فشل الاستخبارات الإسرائيلية في 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 مشبوه بعض الشيء بالنظر إلى كيف سيستفيد حزب الليكود سياسيّاً من هذه الأزمة داخليّاً ودوليّاً”. أضاف: “نحن نعلم أنّ كلّ ما يقوله اليهود عمّا فعلته “حماس” هو كذب”.
يتقاطع هذا التيّار مع التيّارين الآخرَين على تأييد ترامب ومعارضة اليسار وأفكاره الليبرالية. ولا تمثّل هذه التيّارات الثلاثة الرئيسة كلّ المشهد اليمينيّ الجمهوريّ في الولايات المتّحدة. هناك تيّار المحافظين الجدد، مثلاً، وكان الرئيس الأسبق جورج بوش الابن (2001-2009) إحدى شخصيّاته، وهو تيّار هجوميّ، غير انعزاليّ، ويتقاطع مع التيّار الديني.
لمتابعة الكاتب على X:
