أخذ “الحزب” طائفته إلى انقلاب كامل على اللغة الهادئة التي بادر بها العهد في انطلاقته، فعاد إلى اللغة نفسها التي أدخلت البلاد في عقدين من الدم والفراغ والانهيار الماليّ والتورّط في “حروب الآخرين” على أرضنا وأرض الآخرين.
كان ربيع التفاؤل بإمكان التفاهم مع “الحزب” في الأشهر الماضية أشبه بربيعَين كاذبين، أوّلهما حين مدّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري يده إلى “الحزب” غداة صدور قرار مجلس الأمن 1559، بما فيه من نصّ على نزع سلاح الميليشيات، والثاني بعد اغتياله، حين مدّ الجميع إلى “الحزب” يد التفاهم، ودفعت قوى 14 آذار ثمن ضمّه إلى “التحالف الرباعي” في انتخابات 2005، وهو ما أتاح لميشال عون المزايدة وركوب موجة الانتفاض على الإقصاء في الشارع المسيحي. وبعد ذلك جلس الجميع إلى طاولة حوارٍ يرأسها ممثّل الشيعة في الحكم، الرئيس نبيه برّي.
قرار إيرانيّ واضح
يكرّر “الحزب” اليوم خطاب 2005 و2006 بحذافيره. قال بداية إنّ القرار 1559 حربٌ عليه وخيانة، وأباح دم كلّ من له يدٌ فيه، وهدّد بقطع يد من تمتدّ يده إلى السلاح و”نزع قلبه وعقله وروحه”. وانفجر البلد بعد ذلك باستشهاد الحريري وكوكبة شهداء ثورة الأرز. والباقي تاريخٌ يعرفه الجميع.
ما قاله الأمين العامّ الراحل لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله في حوار 2006 مطابقٌ تماماً لما قاله خلفه الشيخ نعيم قاسم قبل يومين. إنّه يصف ورقة توم بارّاك بمثل وصف سلفه القرار 1559. وليس واضحاً إن كان سيُهدَر دم من يعمل على تطبيقها كما أُهدر دم من وافق على الـ 1559. عادت لغة “نزع الروح”، وأُخِذ الشيعة إلى خيار كربلائيّ، كما لو أنّ نوّاف سلام هو بن معاوية، ويُقال لهم هذه الأيّام إنّ السلاح “شرفهم” وضمانتهم وكرامتهم، وإنّ الحفاظ عليه أهمّ من منع وقوع حربٍ أهليّة.
مدّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري يده إلى “الحزب” غداة صدور قرار مجلس الأمن 1559
انقلب قاسم على موافقة “الحزب”ذ على البيان الوزاري الذي حسم مسألة “حصر السلاح”، وتنصّل من موافقته السابقة على مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، وقدّم تأويلاً جديداً لمفهوم “الحصريّة” يعلّقها على المستحيل: أن تقوم الدولة (العاجزة بنظره) بإخراج إسرائيل من كامل التراب اللبناني، وأن توقف الاعتداءات، وأن تبدأ إعادة الإعمار، “ثمّ تأتي إلى بحث الاستراتيجية الدفاعية”، وهو البحث العقيم نفسه الذي بدأ في طاولة حوار 2006 وانتهى باعتصام مسلّح وباجتياح بيروت في 7 أيّار 2008.
الجواب البديهيّ: إذا كانت الدولة قادرة على تحقيق كلّ ذلك فما مبرّر وجود السلاح بيد “الحزب”؟ وإذا لم تكن قادرة، و”الحزب” يعرف ذلك، فهل لوضع هذا الشرط أمامها من سبب سوى التعجيز لتبرير الاحتفاظ بالسلاح؟
الإشكال هذه المرّة أنّ انقلاب “الحزب” على الإجماع اللبناني على “حصر السلاح” ليس له تفسير سوى أنّه قرار إيراني. ولا أدلّ على ذلك من أنّ إعلانه أتى أوّلاً على لسان الأمين العامّ لمجلس الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني خلال زيارته الأخيرة لبيروت، قبل أن يتردّد صداه في تصريحات “الحزب”.
يُلبَس الأمر لباس مصلحة الجماعة الشيعية في لبنان، وهو خلاف الواقع. ففي هذه المرّة بالذات من الواضح للشيعة وسواهم أنّ السلاح ليس الخيار الوحيد، وليس أفضل الخيارات لحاضر الشيعة ومستقبلهم.
قد يكون كلام المبعوث الأميركي الأسبوع الماضي وكلام وفد الكونغرس الأميركي في بيروت أمس تعبيراً واضحاً عن أنّ الشيعة أمامهم خيار آخر: أن ينخرطوا في الحساب الوطني البراغماتي الواحد، بدلاً من أن يكون لهم دفتر حسابات منفصل تتولّى طهران إدارته الحصريّة.
ما قاله الأمين العامّ الراحل لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله في حوار 2006 مطابقٌ تماماً لما قاله خلفه الشيخ نعيم قاسم قبل يومين
استعادة الخطأ نفسه؟
يصوّر “الحزب” الخيار أمام الشيعة بأنّه “كربلائيّ”، فإمّا أن تسلّم الدولة ببقاء السلاح (الإيراني) بيده، وإمّا أن يقاتل حتّى الموت، ولو احترق البلد بنزاع أهليّ. لا أحد له مصلحة بهذا التصوير للموقف سوى طهران، لأنّه يضع شيعة لبنان في رصيدها، ويحوّلهم إلى مقاتلين من أجل أمنها القومي الذي أتى لاريجاني إلى بيروت للدفاع عنه.
بينما أمام الشيعة طريق آخر هو أن يخوضوا الحسابات الوطنية البراغماتيّة، ويناقشوا الفرصة المتاحة إذا ما خاضوا في خيار الدولة الواحدة، مقابل المخاطر المحدقة إذا ما اختاروا “الخيار الكربلائيّ” للقتال من أجل السلاح.
قارن قاسم بين حال سوريا في مواجهة الاعتداء الإسرائيلي وحال لبنان، وخلص إلى أنّ حزبه منع وصول إسرائيل إلى بيروت “كما وصلت إلى دمشق”. ومع أنّ المقارنة لا تستقيم مع فارق الظروف والموارد والتسليح، فالأحرى أن يقارن بين المقاربة البراغماتيّة لسوريا في قياس مصالح الدولة، ومقاربة حزبه.
ما الذي تحقّق من المصالح اللبنانية بعد “17 عاماً من الردع”، كما يسمّيها؟ ماذا فعل السلاح بواقع لبنان السياسي والاقتصادي والحدوديّ؟ وماذا فعل بواقع الشيعة؟ هل كلّ ما يحتاج إليه الشيعيّ أن يكون حزب الطائفة الأكبر حاملاً للامتياز الحصريّ للسلاح الإيراني في لبنان والمنطقة، حتّى لو انهارت الدولة؟
آن للشيعة أن يتوقّفوا عن الحديث عن الدولة وكأنّهم ضيوفٌ عابرون على سبيلها. آن لهم أن يمتلكوها وينخرطوا في مشروعها وصياغة مصالحها على القواعد البراغماتية الوطنية، لا على قاعدة تحصيل ما أمكن من المكاسب من “دولة الآخرين”.
إقرأ أيضاً: “الحزب” يستثمر في “هزيمة” الشّيعة… ماذا تفعل الدّولة؟
هذا هو جوهر العرض الذي يقدّمه لهم العهد ومَن معه، ومن الخطيئة أن يسمحوا لحزب السلاح أن يتعامل مع العرض كما تعامل مع اليد التي امتدّت إليه من رفيق الحريري قبل الاغتيال، ومن 14 آذار بعده.
