حلّ الدّولتين: الرّسائل في الدوحة والمعركة في نيويورك

مدة القراءة 6 د

لم يسبق لأيّ قمّة عربيّة – إسلاميّة أن انعقدت إلّا في العاصمة السعوديّة وبدعوة منها. لذلك كان انعقادها للمرّة الأولى في الدوحة رسالةً سعوديّةً في المقام الأوّل، إلى الأميركيّين والمجتمع الدوليّ والقوى الرئيسة في المنطقة.

 

انعقدت القمّة العربيّة – الإسلاميّة مرّتين في الرياض، الأولى عام 2023 لبحث العدوان الإسرائيلي على غزّة، والثانية في تشرين الثاني الماضي حين وضع وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان الحجر الأساس لمعركة الحشد الدولي لإقامة الدولةِ الفلسطينيّة، وهي المعركة الدبلوماسية الجوهرية التي تقع في صلب الكثير من فصول الأحداث الجارية هذه الأيّام.

قبل ذلك، كان أوّل استخدام لتعبير “القمّة العربية الإسلامية” خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للرياض في ولايته الأولى عام 2017. حينها انعقدت قمّتان، عربيّة – أميركية وإسلاميّة – أميركية، وكانتا محطّة أساسيّة في نمطِ مخاطبةِ العالمَين العربي والإسلامي للولايات المتّحدة، بوصفها القوّةَ العالميّةَ العظمى.

مخاطبة إدارة ترامب

شكّلت قمّة الدوحة محطّةً جديدةً أساسيّةً في مخاطبة العالمَين العربيّ والإسلامي لإدارة ترامب، بما تمثّله هذه الأخيرة من مركّبين أساسيَّين يمينيَّين:

1- مركّب “أبيض”، يضع المصالحَ الأميركيّة أوّلاً، ويُرمز إليها بمصطلح MAGA (جعل أميركا عظيمة مجدّداً)، الذي هو الشعار الأساسيّ لمقولة ترمب السياسية.

2- مركّب “إنجيليّ” محافظ يربط الدعم المطلق لإسرائيل بالمقولات التوراتيّة التي تعلو على المصالح الأميركيّة.

فيما كانت القمّة منعقدةً في الدوحة، كان المركّب الثاني يحطّ في تل أبيب والقدس، ممثّلاً بوزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو. وجد الأخير وقتاً كافياً خلال زيارته للصلاةِ أمام حائط البراق (“المبكى” في التسمية الإسرائيليّة)، وزيارة الأنفاق التي حفرها الاحتلال تحته، وافتتاح نفق “مسار الحجّاج” من موقع “مدينة داود” الأثريّ في حيّ سلوان العربيّ باتّجاه المسجد الأقصى، وهو مشروع استيطانيّ يقع في قلب مشاريع تهويد القدس الشرقيّة والسيطرة على الحرم الشريف.

لن تقلب قمّة الدوحة موازين التحالفات والتوازنات في المنطقة لكنّها جزء من معركة سياسية دوليّة لاستعادة شيء من التوازن في الإقليم

في تلك الزيارة، لم يجد روبيو في قاموسه كلمةً واحدةً لانتقاد الاعتداء الإسرائيلي على قطر، ولو بحدود التعابيرِ الملطّفةِ التي انتقاها رئيسه، بل أيّد بصريح العبارة الاجتياح الإسرائيلي الجديد لمدينة غزّة، ناسفاً دعوات ترامب الخجولة إلى إنهاء الحرب. وقبل أن تقلع طائرته باتّجاه الدوحة، كانت القوّات الإسرائيلية قد بدأت بالفعل هجومها البرّيّ على غزّة.

في المقابل، ثمّة تيّارٌ متنامٍ في الداخل الأميركي، وفي المعسكر الجمهوري تحديداً، بدأ يتحدّث بلغة “المصالح الأميركيّة أوّلاً”، ويضمّ أصواتاً بارزة مثل السناتور راند بول، والإعلاميّ تاكر كارلسون والناشطة كانديس أوينز، وحتّى الناشط اليمينيّ تشارلي كيرك الذي قُتل في إطلاق نار الأسبوع الماضي. أقلقت هذه الأصوات نتنياهو لأنّ المعسكر الجمهوري يُعدّ الحصن الأخير لدعم إسرائيل في الولايات المتّحدة، فيما تظهر استطلاعات الرأي تراجعاً كبيراً في تأييد الديمقراطيّين لها.

ما الذي تغيّره قمّة الدّوحة؟

لن تقلب قمّة الدوحة موازين التحالفات والتوازنات في المنطقة، لكنّها جزء من معركة سياسية دوليّة لاستعادة شيء من التوازن في الإقليم، بعدما حطّمت حروب ما بعد “7 أكتوبر” التوازنات القديمة. بدا لإسرائيل أنّ الفرصة سانحة للقضاء على “حلّ الدولتين” والأسسِ التي قامت عليها عمليّة السلام برمّتها، وإقامة نظام إقليمي جديد يطلق يدها للضرب حيثما شاءت، من الأراضي الفلسطينية إلى لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن، والآن إحدى دول مجلس التعاون الخليجي.

الدوحة

أخذت السعوديّة على عاتقها مواجهة هذا المشروع، وقادت مع شركائها الأوروبيّين إبقاء مشروع الدولة الفلسطينية حيّاً، ونجحت من خلال “إعلان نيويورك” في وضعه مجدّداً في صدارة الأجندة الدوليّة، فحظي بتأييد جامع من 142 دولة في الجمعية العامّة، فيما لم تجد إسرائيل من يصوّت إلى جانبها في معارضة القرار سوى الولايات المتّحدة وثماني دولٍ أخرى، معظمها من وزن بالاو وميكرونيسيا وناورو وتونغا!

شكّلت قمّة الدوحة محطّةً جديدةً أساسيّةً في مخاطبة العالمَين العربيّ والإسلامي لإدارة ترامب

ستصل هذه المعركة إلى ذروتها في اجتماعات الجمعيّة العموميّة للأمم المتّحدة في نيويورك الأسبوع المقبل، حيث تُمارسُ ضغوطٌ هائلة لتأخير إعلان دول كبرى اعترافها بالدولة الفلسطينية، من بينها فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا.

تجميد التّطبيع

في هذا السياق، يمكن اعتبار الضربة الإسرائيلية لقطر رسالةً ممتدّةً إلى محيطها الخليجي، بعدما جمّدت السعوديّة محادثات التطبيع وجعلت إنشاء الدولة الفلسطينية شرطاً له، وبعدما أصدرت الإمارات موقفاً متشدّداً من ضمّ الضفّة الغربية، ووضعت الثقل الذي اكتسبته من الاتّفاقات الإبراهيميّة لوقفه.

يصل الصراع السياسي – العسكري إلى ذروته، وليس يسيراً على الدول العربيّة، لكنّه ليس يسيراً على إسرائيل أيضاً. في غمرة النشوة العسكرية الإسرائيليّة، يتحدّث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مواجهة بلاده للعزلة، لدرجة إعلانه الحاجة إلى “بناء اقتصاد اكتفاء ذاتي”، في ظلّ بوادر موجة عقوبات أوروبية، وهو ما جرّ عليه انتقادات حادّة من المعارضة وكُتّاب الرأي في الداخل الإسرائيليّ.

إقرأ أيضاً: التنسيق المصري- السعودي: صناعة الموقف العربي..

في قلب الصراع، تقتضي الواقعية العربية عدم الخوض في مواجهة مع الإدارة الأميركية، بل التعامل معها كما يتصرّف حلفاءُ أميركا الآخرون، من اليابان وكوريا الجنوبية في أقصى الشرق، إلى دول الاتّحاد الأوروبي وأوكرانيا. فكلّ هؤلاء يواجهون خذلاناً أميركيّاً في مكانٍ ما، لكنّهم يدركون أنّ السياسة الدولية بالنسبة لترامب وإدارته ليست سوى “لعبة أوراق”. وفي عالمٍ كهذا، لا بد لكلّ قوّذةٍ أن تمسك بأوراقها جيّداً.

مواضيع ذات صلة

نيويورك: من 11 أيلول إلى عمدةٍ مسلم مهاجر

في لحظةٍ تُعيد رسم ملامح الهويّة الأميركيّة، اختارت نيويورك المدينة، التي كانت يوماً رمزاً للجراح بعد 11 أيلول 2001 حين وقف عمدتها رودي جولياني رافضاً…

زهران ممداني الذي هزم ترامب

في زمنٍ تتقلّص فيه المدن الكبرى تحت ثقل اللامساواة والهويّة المنغلقة، يطلّ زهران ممداني الفائز بمنصب عمدة مدينة نيويورك وجهاً جديداً للعصر، يحمل في ملامحه…

“الحزب” يفقد ثلثه

حقيقة ينبغي أن يدركها “الحزب” وقيادته، في بيروت كما في طهران، أنّ “الحزب” خسر ثلاثة أثلاث كانت تشكّل ركائز نفوذه وهيمنته على الساحة السياسيّة في…

“الحزب” يرفض التّفاوض ردّاً على تطويق إيران؟

تتراكم المفارقات على طريق رسم المعادلات الجيوسياسيّة في المنطقة. تستبق واشنطن استقبالها أحمد الشرع الإثنين بالتحضير لاستخدام طائراتها لقاعدة جوّيّة جنوب دمشق. قبل ثلاثة أيّام…