كان من المفترض لقمّة شرم الشيخ أن تُظَهّر صورة الشرق الأوسط الجديد، بعد سنتين من التحوّلات الكبرى، من دمار غزّة، إلى ضرب إيران في عقر دارها وإضعاف أذرعها، وسقوط نظام الأسد. فالشرق الأوسط الجديد لم يرسُ على توازنات قابلة لتوليد اتّفاقات طويلة الأمد بعد، وهذا ما يفسّر ضخامة الحدث وهشاشة الوثيقة الموقّعة باسم “إعلان ترامب للسلام الدائم والازدهار”.
لا تشبه “قمّة السلام” في شرم الشيخ كثيراً “مؤتمر السلام” في مدريد عام 1991، الذي أعقب سقوط الاتّحاد السوفياتيّ وحرب تحرير الكويت، على الرغم من مبالغات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تصوير اللحظة وكأنّها نهاية لثلاثة آلاف سنة من الصراع!
كانت رحلة ترامب من الكنيست الإسرائيلي إلى شرم الشيخ أشبه بعبورٍ بين عالمين منفصمين لا مشترَك بينهما سوى صورة ترامب نفسه وخطابه المكرّر. اجتمع معظم العالم الإسلامي والعربي والأوروبي في شرم الشيخ، فيما ظلّت إسرائيل في إسرائيل. التقى ترامب بالطرفين كلٌّ على حدة، من دون أن يجمع بينهما أو بين توقيعَيهما على وثيقة واحدة.
قيل إنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رفض الدعوة التي حملها إليه ترامب لمرافقته إلى شرم الشيخ متذرّعاً بعطلةٍ يهوديّة، وقيل إنّ الدول العربيّة الكبرى، وخصوصاً السعوديّة، تحفّظت عن وجوده بعد المقتلة التي ارتكبها في غزّة، ولأنّها لا تريد تقديم دفعة مجّانيّة في حساب التطبيع.
المفارقة الكبرى كانت في أسماء الدول الموقِّعة على “إعلان ترامب”: لماذا الولايات المتّحدة ومصر وقطر وتركيا؟ لماذا لم توقّع إسرائيل؟ لماذا لم توقّع منظّمة التحرير الفلسطينيّة؟ إذا كان السلام بين إسرائيل والفلسطينيّين، فمن يمثّل الفلسطينيّين هنا؟ إذا كان المطلوب توقيع رعاة الحلّ وعرّابيه، فلماذا لم توقّع الدولتان العربيّتان الأقوى حضوراً ونفوذاً في واشنطن: السعوديّة والإمارات؟
لا تشبه “قمّة السلام” في شرم الشيخ كثيراً “مؤتمر السلام” في مدريد عام 1991، الذي أعقب سقوط الاتّحاد السوفيتيّ وحرب تحرير الكويت
غياب بن سلمان
ثمّة انطباعٌ ولّده غياب وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان ورئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد عن القمّة، بأنّ العرب يريدون إعادة ضبط المسار السياسيّ في المنطقة بما يحول دون تصرّف إسرائيل كقوّة مطلقة اليد في الإقليم بعد حروب السنتين الماضيتين. تجلّى هذا التوجّه في المعركة الدبلوماسية التي خاضتها السعوديّة في “إعلان نيويورك”، الذي أثمر اعترافاً بالدولة الفلسطينيّة بأغلبيّة ساحقة في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة. وظهر في الضغوط التي مارستها الإمارات على واشنطن لمنع إسرائيل من ضمّ الضفّة الغربيّة.
لذلك تبدو السعوديّة حذرةً من تكرار التجارب التي تقود إلى معالجات مرحليّة تتيح لإسرائيل الاستمرار بتغيير الوقائع على الأرض والقضاء على أيّ أمل بقيام دولة فلسطينيّة. يزداد هذا الحذر في ظلّ ما يرشح عن استعداد إدارة ترامب للقفز إلى إحياء مفاوضات التطبيع، من دون أن تقدّم التزاماً بمسار سلامٍ شاملٍ يفضي إلى قيام دولةٍ فلسطينيّةٍ عاصمتها القدس. وذاك هو الخطّ الأحمر السعوديّ المعلن منذ عهد الإدارة الأميركيّة السابقة (ذكر ترامب في خطابه أمام الكنيست أنّ السببين اللذين كانا يحولان دون توسيع الاتّفاقات الإبراهيميّة لم يعودا قائمَين، وهما إيران وحرب غزّة، ولم يأتِ بطبيعة الحال على ذكر شرط الدولة الفلسطينيّة).
كان مضمون نصّ “إعلان ترامب للسلام” مفاجئاً للإعلام الأميركي قبل غيره. الوثيقة، كما نشر نصّها البيت الأبيض، ليست إلّا “مذكّرة رئاسيّة” (Presidential Memoranda)، وليست اتّفاقاً ولا اتّفاقيّة ولا معاهدة، بل هي أقرب إلى إعلان نوايا لا يحمل التزامات بإجراءات محدّدة من الموقّعين.
كانت رحلة ترامب من الكنيست الإسرائيلي إلى شرم الشيخ أشبه بعبورٍ بين عالمين منفصمين لا مشترَك بينهما سوى صورة ترامب نفسه
صدمة الإعلام الأميركيّ
الإعلان كلّه لا يتجاوز 470 كلمة، تكرّرت فيه كلمة “السلام” 14 مرّة و”الأمن” خمس مرّات و”الازدهار” أربع مرّات. كانت صدمة الإعلام الأميركي بذلك كبيرة، لأنّ ما كان منتظراً من هذا “الاتّفاق” أن يوضّح النقاط الضبابيّة في خطّة ترامب للسلام في غزّة، لا سيما ما يتعلّق منها بتنظيم اليوم التالي للحرب، وهويّة السلطة البديلة التي ستمسك بالأرض وتتولّى نزع سلاح “حماس” وتنفيذ الالتزامات المتعلّقة بإعادة الإعمار.

يمكن العودة إلى أرشيف المواقف في الأشهر الأولى للحرب للتأكّد من أنّ الدول العربيّة لن تُقدّم الأموال للإعمار بلا حساب حتّى لا تعود إسرائيل إلى تدمير القطاع كلّ بضع سنوات. بل لا بدّ من حلّ سياسيّ يضمن الاستقرار على المدى البعيد ويضع مساراً موثوقاً ومحدّداً لقيام الدولة الفلسطينيّة الواحدة الموحّدة في الضفّة وقطاع غزّة.
لا ذكر للدّولة
لذلك لا يمكن الركون إلى “إعلان ترامب” الذي يتحدّث عن السلام الدائم من دون أيّ اتّفاق على أيّ نقطة خلافيّة، أو حتّى على الأسس والمرجعيّات لإعادة إطلاق المفاوضات، سواء بتأكيد مرجعيّات مسار مدريد قبل 35 عاماً، أو اجتراح مرجعيّات جديدة. الأخطر أنّه لا يأتي على ذكر الدولة الفلسطينيّة، لا كثمرة مباشرة للسلام، ولا كمسار مستقبليّ موثوق، ولا يشير إلى حقّ الفلسطينيّين في تقرير مصيرهم.
مع ذلك، كان الحشد كبيراً من قادة الدول الأوروبيّة والإسلامية والعربيّة الذين حضروا إلى شرم الشيخ على عجلٍ، على نحوٍ أذهل ترامب نفسه، فعلّق بأنّهم حضروا على الرغم من إبلاغهم “قبل عشرين دقيقة فقط”.
كان من المفترض لقمّة شرم الشيخ أن تُظَهّر صورة الشرق الأوسط الجديد، بعد سنتين من التحوّلات الكبرى
من المنظار المصريّ، كان المشهد مقصوداً لاستدراجه إلى جعل السلام في غزّة التزاماً شخصيّاً مرتبطاً باسمه ونرجسيّته. نُشِرت صور ترامب على الطرقات من المطار إلى مقرّ انعقاد القمّة، وتمّ تحضير المسرح له ليكون نجم الحدث الذي يستضيف القادة ويتوسّطهم في الصورة التذكارية. ربّما أثمر هذا الاستدراج شيئاً ما بجعل إنهاء الحرب مشروعاً أميركيّاً يصعب على نتنياهو تجاوزه، وهو الذي يوجّه رسائله إلى الداخل وإلى حلفائه في اليمين بأنّ الحرب توقّفت مؤقّتاً ولم تنتهِ.
إقرأ أيضاً: عنجهيّة طهران تغرقها بالعزلة ونتنياهو يخرج منها؟
قد يكون هذا أغرب اتّفاق سلامٍ في التاريخ لا يوقّع عليه أيٌّ من طرفَي النزاع، ولا يتطرّق إلى شيء من أسس الصراع. لكن حين يتعلّق الأمر بترامب، فإنّ التعويل كلّه يكون على “الزخم” الجارف الذي يصنعه بنفسه ليضع الجميع تحت الضغط لإمضاء “الصفقات”. يعتني أكثر ما يعتني بالصورة التي يصنعها للتاريخ في اجتماعات القمم، أكثر ممّا يعتني بمضامين الاتّفاقات وقدرتها على الصمود.
