“يوم القدس” السّعوديّ: العرب يستعيدون القضيّة… والدّولة الوطنيّة

مدة القراءة 5 د

بدأت السعوديّة مواجهة طويلة وشاقّة مع إسرائيل، ومن ورائها واشنطن، لاختراق الجدار المغلق بوجه الحقّ الفلسطينيّ. وليس الانتصار الدبلوماسيّ في نيويورك سوى المعركة الأولى في مسار شاقّ.

 

 

كانت نقلة استراتيجيّة من السعوديّة لتغيير وجهة الأحداث، بتجميد مسار التفاوض الذي فتحته واشنطن منذ عهد الإدارة السابقة، والاتّجاه بدلاً من ذلك نحو حشد أكبر دعمٍ دوليّ للدولة الفلسطينية منذ النكبة، ليُتوَّج هذا المسار بالقرار التاريخي للجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة في 12 أيلول 2025 بإقرار “إعلان نيويورك” بشأن حلّ الدولتين، ثمّ بانعقاد “مؤتمر تسوية قضيّة فلسطين وتحقيق حلّ الدولتين” تحت مظلّة الأمم المتّحدة، برئاسة مشتركة بين السعوديّة وفرنسا، وتوالي الاعترافات بالدولة الفلسطينية من دول كبرى، أبرزها بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا والبرتغال.

السّعوديّة تستعدّ

أظهرت هذه النقلة للمرّة الأولى قدرة العرب على اجتراح خيارات أخرى خارج الإطار التقليدي لعمليّة السلام، بعدما بدا للحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة أنّ بإمكانها استخدام هذا المسار لتكبيل الفلسطينيّين بالالتزامات من دون أن تلتزم بشيء في المقابل، ومن دون أن تتوقّف عن تغيير الوقائع على الأرض ما دامت تحظى بالغطاء من الراعي الأميركيّ.

لكنّ خيار المواجهة له ما بعده، ومن الواضح أنّ السعوديّة تستعدّ للفصول التالية في حال قرّر رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو المضيّ في ضمّ الضفّة الغربية واحتلال غزّة.

المعركة التالية أعلن عنوانها الأمير فيصل بن فرحان، وهو ألّا تتحوّل إعلانات الاعتراف بدولة فلسطين إلى خطوة رمزيّة أو تبرئة لذمّة الدول الكبرى، بل إلى واقع قانونيّ وسياسيّ جديد يُبنى عليه مقتضاه

أمام هذا المسار الشاقّ، تبرز معطيات أساسيّة في المشهد الراهن:

  1. استعاد العرب، بقيادة السعوديّة، الشرعيّة السياسيّة والشعبيّة لخوض المواجهة الدبلوماسيّة والسياسيّة، بعد عقود من ادّعاء الحقّ الحصريّ في الاستحواذ عليها واستخدامها من قبل إيران وما كان يسمّى “محور الممانعة”. فالحقّ الفلسطيني اكتسب زخماً غير مسبوق في عواصم القرار، وربّما المعنى الرمزيّ الأعمق لرفع العلم الفلسطيني في نيويورك، وفي عواصم 140 دولة، من بينها ثلاث من دول مجموعة السبع، أنّ الراية الفلسطينيّة تحرّرت من مصادرة المحور الإيرانيّ.
  2. تحوّلت إسرائيل إلى دولة منبوذة دوليّاً، ما خلا الدعم الأميركي. لكن حتّى هذا الدعم بات محلّ تحليل وشكّ على المدى البعيد، لدرجة أنّ نتنياهو يطرح التوجّه نحو تحويل إسرائيل إلى “سوبر-إسبارطة”، بمعنى الانكفاء والاعتماد على الذات في مواجهة العالم “المعادي”. ويكفي أنّ غلاف مجلّة “ذي إيكونوميست” الأسبوع الماضي حمل العنوان العريض “كيف تخسر إسرائيل أميركا”. وتحدثّت المجلّة مطوّلاً عن انقلاب الموقف من إسرائيل في استطلاعات الرأي الأميركيّة، خصوصاً في المعسكر الديمقراطي، وتبعات ذلك على المستوى السياسي عاجلاً أم آجلاً. تشير المجلّة مثلاً إلى أنّه بين عامَي 2018 و2021، تراجع الدعم لإسرائيل في أوساط الجمهوريّين دون الخمسين عاماً من 69% إلى 34%، فيما ارتفعت نسبة الأميركيّين الذين يحملون موقفاً سلبيّاً من إسرائيل من 42% عام 2022 إلى 53% الآن. وتذهب المجلّة إلى حدّ القول إنّ إسرائيل قلقة من أن يرفض ترامب تسليمها المساعدة الأميركية السنوية البالغة 3.8 مليارات دولار ويطلب إعادة ترتيبها على شكل شراكات.

ستكون لاستعادة الشرعيّة وزمام المبادرة آثار كبيرة على القضيّة الفلسطينية. فإنجاز نيويورك ستتبعه مواجهات أكثر ضراوة على الأرض وفي الأروقة الدبلوماسيّة

مواجهات أكثر ضراوة

لكن مع ذلك، ليس التحدّي المقبل أقلّ ضراوة. فالمعركة التالية أعلن عنوانها وزير الخارجيّة السعوديّ الأمير فيصل بن فرحان، وهو ألّا تتحوّل إعلانات الاعتراف بدولة فلسطين إلى خطوة رمزيّة أو تبرئة لذمّة الدول الكبرى، بل إلى واقع قانونيّ وسياسيّ جديد يُبنى عليه مقتضاه.

في المقابل، من المنتظر أن يكون ردّ نتنياهو وحكومته اليمينيّة بفرض المزيد من الوقائع على الأرض، من خلال احتلال غزّة وضمّ المنطقة C في الضفّة الغربية، التي تشكّل نحو 60% من مساحتها، وتسريع مشاريع الاستيطان لتهويد القدس الشرقية وفصل شمال الضفّة عن وسطها وجنوبها. وفي هذه المعركة تستخدم الإمارات الثقل المكتسب من الاتّفاقات الإبراهيميّة لتحذّر نتنياهو من عواقب هذا القرار، وتوظّف في ذلك ثقلها كقوّة اقتصاديّة وشريك استثماريّ ضخم للولايات المتّحدة في مجالات الذكاء الاصطناعيّ. وقد كان تقليص دور السفير الإسرائيلي في الإمارات، يوسي شيلي، إشارة في هذا الاتّجاه، وأعقبه استدعاء نائب السفير لإبلاغه إدانة العدوان الإسرائيلي على غزّة.

إقرأ أيضاً: السّعوديّة تستعيد الدّول من الميليشيات

ستكون لاستعادة الشرعيّة وزمام المبادرة آثار كبيرة على القضيّة الفلسطينية. فإنجاز نيويورك ستتبعه مواجهات أكثر ضراوة على الأرض وفي الأروقة الدبلوماسيّة. لكن على الأقلّ يمكن توقّع انتظام أفضل لإدارة القضيّة المركزيّة للعرب والمسلمين، بعد عقود من المزايدات والاستخدام المفرط لاسم القدس في إنشاء الفيالق والميليشيات التي لم تكن لها وظيفة سوى إنتاج فطريّات على هامش الهويّات الوطنيّة، وحرف ولاءات مجموعات من المواطنين إلى إيران، وتجنيدهم في مشاريعها العسكريّة والأمنيّة.

ربّما يكون من بوادر هذا الانتظام أن يعلن “الحزب” التزامه بعدم توجيه سلاحه إلى الداخل أو تعريضه بالسعوديّة أو سواها من الدول العربية، لكنّ المسار ما يزال في بدايته لاستعادة الانتظام والدولة الوطنيّة في دول المنطقة كلّها، بما فيها فلسطين.

مواضيع ذات صلة

بن سلمان- ترامب: حماية لبنان بعد تحصين سوريا؟

هل باتت القاعدة القائلة إنّه حيث تكون دمشق يكون لبنان في تموضعه الإقليميّ والدوليّ أقرب إلى التحقُّق بعد الحضور الجذّاب للرئيس أحمد الشرع في واشنطن؟…

سقوط “الأبيض” يرسم مستقبلاً سودانيّاً أسود

سقطت مدينة الفاشر السودانيّة بيد قوّات الدعم السريع، وسقطت معها كلّ الضوابط الأخلاقيّة والإنسانيّة في الحرب المنسيّة. شكّل سقوطها نكسة استراتيجيّة كبرى للجيش السودانيّ، بعدما…

الاستثمارات “تصالح” أميركا والصّين

بوتيرة ثابتة كقطار يسير بلا توقّف، تواصل الكويت مسيرة التغيير والتنمية على قاعدة تعويض ما فات واللحاق بالرَكب الخليجيّ التنمويّ، تمهيداً لإنهاء حقبة الاعتماد الكلّيّ…

مفاوضات مباشرة تستنسخ تجربتَيْ غزّة وسوريا؟

ما لم يعد مثار التباس أنّ لبنان يريد التفاوض مع إسرائيل. موقف مبدئيّ وقاطع سلّم به الرؤساء والأفرقاء باستثناء “الحزب” الذي رفض الخوض فيه. أمّا…