ليس التحرّش المستمرّ لإسرائيل بالقوّة الدولية في جنوب لبنان عملاً اعتباطياً بمقدار ما يبدو أنّه جزء من مخطّط مدروس في غاية الخطورة. يتمثّل هذا المخطّط الإسرائيلي، في ضوء جريمة فتح جبهة الجنوب التي ارتكبها “الحزب”، في إقامة منطقة عازلة على طول “الخطّ الأزرق” مع ما يعنيه ذلك من فرض تعديل على القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن للأمم المتحدة صيف عام 2006. بات لإسرائيل مفهوم جديد لخطّ الحدود مع لبنان ولما يعنيه القرار 1701 الذي وافق الحزب على كلّ حرف فيه لدى صدوره وما لبث أن انقلب عليه بمجرّد التوصّل إلى “وقف العمليات العدائية” مع إسرائيل.
هل من يستطيع إيقاف هذا المخطّط الإسرائيلي أو من يريد ذلك؟ سيتوقّف الكثير على الدخول العربي عبر الأردن على خطّ الحرب بين “الحزب” وإسرائيل، وهي حرب تهمّ في نهاية المطاف كلّ دولة عربيّة، خصوصاً الدول الخليجية التي عانت من الأداة الإيرانيّة المسمّاة “الحزب” ومن هيمنته على لبنان وعزله عن محيطه وعمقه العربيَّين.
تفكّر إسرائيل، منذ الآن، في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب مع “الحزب” وفي دور مختلف للقوّة الدوليّة. بدأت الدولة العبريّة تحدّد أهدافها المباشرة، التي تشمل إقامة “الشريط العازل”، كي تكون مستعدّة لفرض أمر واقع في اليوم التالي لتوقّف المعارك. هذه معارك يدفع لبنان واللبنانيون ثمنها غالياً جدّاً، بمن في ذلك الشيعة الذين صار نصفهم من النازحين عن بلداتهم وقراهم فيما تمارس إسرائيل وحشية ليس بعدها وحشية بدءاً بكلّ قرية لبنانية حدودية وصولاً إلى أيطو في شمال لبنان، مروراً بسوق النبطية القديم والبقاع.
لم يعد سرّاً أنّ حرب لبنان، خلافاً لحرب غزّة، ليست حرب بنيامين نتنياهو، بل هي حرب تلقى دعماً من كلّ المجتمع الإسرائيلي
حرب لبنان: حرب كلّ الإسرائيليّين
لم يعد سرّاً أنّ حرب لبنان، خلافاً لحرب غزّة، ليست حرب بنيامين نتنياهو، بل هي حرب تلقى دعماً من كلّ المجتمع الإسرائيلي… كما تلقى دعماً أميركيّاً. يوجد إجماع إسرائيلي على الذهاب بعيداً في متابعة حرب لبنان. يترافق ذلك مع الإصرار على “الشريط العازل” على امتداد “الخطّ الأزرق” مع احتمال ربط هذا الشريط اللبناني بشريط آخر في الجنوب السوري. كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان واضحاً في تصريحات أدلى بها أخيراً عن نيّات إسرائيلية مبيّتة تجاه سوريا.
لا شكّ أنّ “الحزب” ما زال يلحق خسائر بالإسرائيليين. لكنّ هذا الإصرار الذي يبديه الحزب، بناء على طلب إيراني، عبر إطلاق صواريخ ومسيّرات في اتجاه الأراضي الإسرائيليّة، يعود على لبنان بمزيد من الخسائر. يؤكّد ذلك تهجير الشيعة من مناطقهم كما لو أنّ المطلوب جعل كلّ شيعي لبناني وكلّ لبناني يدفع ثمن ما ارتكبه “الحزب” في حقّ إسرائيل، خصوصاً لجهة إجبار ما يزيد على 70 ألف إسرائيلي على البقاء بعيدين عن بيوتهم في منطقة الجليل وحتّى في حيفا ومناطق محيطة بها.
بعد الزيارة التي قام بها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لعمّان ولقائه الملك عبدالله الثاني، لا بدّ من سؤال محوره: هل بدأت تتبلور خطّة عربيّة للدخول على خطّ مساعدة لبنان في الخروج من الكارثة التي وقع فيها؟ لا شكّ أنّ هناك خطوطاً عريضة عربيّة لتسوية بين لبنان وإسرائيل تأخذ في الاعتبار وجود طرفين لا يهمّهما مصير لبنان. الطرفان هما إسرائيل وإيران. ترفض إسرائيل العودة إلى ما كان عليه الوضع في جنوب لبنان، بل في لبنان كلّه، قبل الثامن من تشرين الأوّل 2023 يوم قرّر الراحل حسن نصرالله فتح جبهة جنوب لبنان “إسناداً لغزّة”.
تفكّر إسرائيل، منذ الآن، في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب مع “الحزب” وفي دور مختلف للقوّة الدوليّة
في المقابل لا تعترف إيران بأنّ الحرب مع إسرائيل، انطلاقاً من لبنان، ليست نزهة. كذلك تبيّن أنّ الحزب لا يستطيع التحكّم بشروط الحرب وقواعدها. لم يفقد الحزب حسن نصرالله وأهمّ كوادره فحسب، بل فقد أيضاً الهيمنة الكاملة التي كان يمارسها على لبنان وصولاً إلى فرض رئيس للجمهوريّة يريده على البلد وامتلاك قرار الحرب والسلم فيه.
إيران وأخذ العلم بما حصل
الغريب رفض “الجمهوريّة الإسلاميّة” أخذ العلم بما حلّ بـ”الحزب” من جهة، وإصرارها على متابعة الحرب من جهة أخرى. يعبّر عن ذلك مجيء رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف (الضابط في الحرس الثوري) إلى بيروت مع ما يعنيه ذلك من تأكيد إيراني لواقع أنّ ملفّ الحزب من اختصاص “الحرس الثوري” ولا علاقة لأيّ جهة أخرى، مثل وزارة الخارجية، به.
بات معروفاً أنّ عبدالله الثاني يتولّى مهمّة لبنانية بتفويض من مصر والمملكة العربية السعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتحدة وقطر. هل يستطيع الجانب العربي إنقاذ ما يمكن إنقاذه بدءاً بالحؤول دون إقامة إسرائيل “الشريط العازل” القابل للامتداد إلى الأراضي السورية انطلاقاً من جنوب لبنان؟
لم يكن “الحزب” يوماً مشكلة لبنانيّة فقط. كان أيضاً مشكلة عربيّة بصفة كونه امتداداً للمشروع التوسّعي الإيراني. كانت بيروت ولا تزال، بفضل “الحزب”، المدينة الأهمّ، بعد صنعاء، بالنسبة إلى الحوثيين. كان للحزب دور أساسيّ في التغيير الديمغرافي في سوريا، في محيط دمشق وعلى طول الحدود اللبنانية – السورية ومناطق سوريّة أخرى. إضافة إلى ذلك كلّه، لا يمكن تجاهل الدور الإيراني عبر الحزب وغيره في تهريب السلاح إلى الأردن انطلاقاً من سوريا، وتهريب المخدّرات، عبر الأردن، إلى دول الخليج العربي.
إقرأ أيضاً: نتانياهو وتغيير وجه المنطقة… في ظل بلبلة ايرانيّة!
يبدو الدخول العربي على خطّ الكارثة اللبنانية عاملاً في غاية الأهمّية. يمكن أن يكون نقطة تحوّل في وقف المأساة اللبنانية وما تطمح إليه إسرائيل من خلال “الشريط العازل” الذي سيعني، بين ما يعنيه، مقدّمة لنكبة أخرى للبنان تشبه في جانب منها نكبة فلسطين في 1948.
لمتابعة الكاتب على X: