إسرائيل تعرف… ولا تعترف

مدة القراءة 5 د

أهل فلسطين هم أكثر شعوب الأرض قاطبة من يجيد اللغة العبرية قراءة وكتابة ومحادثة. ليس فقط أولئك الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية أو يتعلّم أبناؤهم في مدارس وجامعات إسرائيل، وينتشرون في حياة اليهود بكلّ تفاصيلها، بل وأهل الضفة والقطاع والقدس، الذين تعلّموا العبرية بحكم الأمر الواقع. بعضهم تعلّمها في غرف التحقيق التي مرّ عليها معظم الفلسطينيين منذ الأيام الأولى التي تلت حرب حزيران 1967. ومنهم من تعلّمها كعامل زراعي أو صناعي أو معماري أو صحّي. ومنهم من قرّر تعلّمها وفق مقولة: “إذا رغبت في أن تأمن شرور الخصم… فتعلّم لغته”.

قليلون من الفلسطينيين لا يجيدون العبرية. وهم بمعظمهم ممّن جاؤوا على أجنحة أوسلو. إذ لا لزوم لاتّقاء الشرور كما كانوا يظنّون، في زمن السلام، حين كان ياسر عرفات يصف رابين بـ”صديقي الراحل”.

أهل فلسطين هم أكثر شعوب الأرض قاطبة من يجيد اللغة العبرية قراءة وكتابة ومحادثة

إجادة اللغة العبرية فرضت على أجيال من الفلسطينيين أن يتابعوا ما تكتبه الصحافة العبرية وما تبثّه الإذاعات وقنوات التلفزيون من أخبار وحوارات. حتى إنّهم يعرفون أسماء السياسيين الإسرائيليين أكثر ممّا يعرفون وزراءهم الفلسطينيين، ويعرفون الأحزاب وسياسيّيها ورموزها وبرامجها ونسب حضورها في الكنيست والحكومة. أمّا الذين لا يجيدون العبريّة، وهم معظم الجيش الذي عاد محمولاً على أجنحة أوسلو وتفاهماتها ووعودها، فمنهم القليل من تعلّمها لمعرفة ما يحيط به. فإسرائيل تطلّ عليه حيثما يمّم وجهه. ومن لا يصادف إسرائيليين في قريته ومدينته فلا مفرّ منهم. فهم موجودون بكامل أسلحتهم على بوّابات المدن والقرى والأحياء، ولا يكفّون عن زياراتهم الثقيلة ولو ليوم واحد من أيام السنة.

الفلسطيني تعلّم أو علّم نفسه العبرية ليقاوم، وليس ليذعن ويستسلم ويتعايش، وليمرّر حياته اليومية بأقلّ قدر من الأذى والخسارة. وهذا ذكاء لا ينكر. فمن دون هذه اللغة، لا لغة ثالثة يجيدها كي يتفاهم مع من يعمل معه في المزرعة أو المستشفى وغيرهما من المرافق التي تكتظّ بالعاملين الفلسطينيين.

لماذا لا يتحدّثون العربيّة؟

إسرائيل التي تحتلّ كلّ فلسطين وتحارب كلّ شعبها، فيها أعداد أقلّ ممّن يتحدّثون العربية، وحتى حين يتحدّثونها عبر الإذاعات والشاشات تبدو ركيكة مشوّهة، وتجد صعوبة في فهم من يتحدّثها، ذلك لأنّه لا لزوم لها إلا في مجالات معيّنة كالاستخبارات وأجهزة المتابعة والرقابة وبعض الباحثين والأكاديميين وبعض الذين جاؤوا من بلدان عربية وما زال المسنّون منهم يحتفظون بلغة الوطن الأوّل كالعراقيين والمصريين والمغاربة.

المفارقة التي تنتجها معرفة إسرائيل لكلّ شيء عن الفلسطينيين أنّهم وهم يعرفون يصرّون على أن لا يعترفوا

يعرف الإسرائيليون كلّ شيء عن الفلسطينيين. فلقد حفظوهم عن ظهر قلب، من خلال احتلالات الأعوام 48 و67 و2023. يعرفون عديد الفلسطينيين من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة. يعرفون كم بيضة تضع دجاجاتهم، وكم شيكلاً يدخل جيوبهم ويخرج منها. ويعرفون كم مصرفاً ومسجداً وكنيسة ومدرسة وجامعة في مدنهم وقراهم. حتى إنّهم قبل هذه الحرب، كانوا يعرفون كم سعرة حراريّة يحتاج إليها ملايين البشر في غزة للبقاء على قيد الحياة. ويعرفون كم طبيباً وممرّضاً يعملون في مستشفياتهم. ويقلقون كلّما زاد العدد عن الحدّ. يعرفون ذلك ويوظّفونه في القنوات الأمنية الضيّقة. حتى إنّ محمود درويش شاعر فلسطين الأكبر قال ذات مرّة إنّ “الإسرائيليين تعرّفوا على أشعاري ليس استمتاعاً بها أو لولع بالمعرفة وإنّما بدوافع أمنيّة. فقصائدي بالنسبة لهم كانت عملاً أمنيّاً تجدر رقابته والتدقيق حتى في حروفه”. حتى إنّ إسحق شامير طالب بإبعاد درويش عن الضفة جرّاء بيت شعر لم يرُق له.

يعرفون ولا يعترفون

المفارقة التي تنتجها معرفة إسرائيل لكلّ شيء عن الفلسطينيين أنّهم وهم يعرفون يصرّون على أن لا يعترفوا. يعرفون أنّ الفلسطينيين منذ 48 زاد عددهم عشرين ضعفاً، لكنّهم لا يعترفون بهم كشعب. ويعرفون أنّ المقولة التي بُني عليها الحلم الصهيوني بإبادة الظاهرة الفلسطينية: “الكبار يموتون والصغار ينسون”، بدت بعد 75 سنة من حروب الإبادة والإلغاء والتصفية… الأكذوبة الأقوى والأعمق التي يعرفها الإسرائيليون ولا يعترفون بها.

إقرأ أيضاً: الحزب و”دفاعه الجوّي”: مضادّ للطائرات المسيّرة.. لا الحربية

في أيّامنا هذه التي يغرق فيها الإسرائيليون في رمال غزة يعرفون أنّ العُزَّل من الـ “إف – 16” والـ “إف – 35” والمفاعل النووي والقنابل الغبيّة والذكية، يحاصرونهم في كلّ مكان من العالم. هم يعرفون ذلك، لكنّهم أيضاً لا يعترفون. وهذه الظاهرة معروفة الجذور والحيثيّات، وسببها أنّهم وضعوا أنفسهم في الجانب الخطأ من التاريخ. وهذا هو حال من يحارب ظاهرة خرجت من إطارها المحلّي الضيّق لتنتشر في العالم كلّه. وهيهات للـ “إف – 35” ولمفاعل ديمونا والتحالف مع أميركا أن تفعل شيئاً حيال هذه الظاهرة.

مصيبتهم أنّهم يعرفون كلّ شيء… ولا يعترفون.

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…