الليرة للنقّ.. والدولار للتفشيخ

مدة القراءة 4 د

ما عدت أقصد المتاجر الكبرى والسوبرماركات لشراء حاجيّات المنزل و”تفتيقات” أمّ زهير المفاجئة، لأنّ الدخول إلى المتاجر الكبرى، هذه الأيام، بات يكبّدك “مشقّتين”:

– الأولى “مشقّة نفسية”، وتخّص الارتفاع المزمن والمتواصل لأسعار السلع. قراءة هذا الكمّ الهائل من الأرقام المصفوفة والمتراصفة تجلب لي الصداع، ولهذا أفضّل أن أقصد متجراً صغيراً قرب المنزل (غالباً أبا محمود إيّاه)، فأسأله عن سعر السلعة التي أريدها، فيردّ بكلمتين، فأتذمّر قليلاً ثمّ أشتري صاغراً مكرهاً.

في السوبرماركت ليس هناك من تسأله ويجيب. فأنت مجبر على قراءة الأسعار بنفسك، بل مجبر على قراءتها بجهد، وذلك نتيجة تعمّد المتاجر الكبرى تصغير الأحرف والأرقام (بعكس الأرباح) حتى “تاكل الضرب” على الصندوق، و”تبظّ” ما في جيبك من دراهم ونقود.

– الثانية “مشقّة جسدية”، وذلك بسبب الحيلة التي لجأ إليها أخيراً أصحاب المتاجر الكبرى والسوبرماركات الذين يعمدون إلى عدم تسعير السلع من أصله. يقولون إنّ ذاك سببه تقلّب أسعار الصرف الـInstantané، وهذا يضطرّك إلى “عدّ البلاط” داخل السوبرماركت ذهاباً وإياباً صوب آلة “الباركود” من أجل الاطّلاع على سعر كلّ سلعة بسلعتها… وهكذا دواليك.

أصابتنا حمّى ارتفاع الأسعار بنوع من أنواع الفصام. بضرب من ضروب “سكيزوفرينيا الدولرة”

أمّا إن كنت من “عديمي الخصيّة”، فتضع أغراضك في العربة، وفي الحالتين “بتاكل الضرب” أيضاً على الصندوق.

في الخلاصة، يحرق أنفاسَك مشوارُ السوبرماركت، التي تخرج منها حارقاً ما يقارب الـ1,000 وحدة حرارية (رياضة مدفوعة الثمن)، منهكاً متعباً مسمومَ البدن.

بل أكثر من ذلك، أصابتنا حمّى ارتفاع الأسعار بنوع من أنواع الفصام. أصابتنا بضرب من ضروب “سكيزوفرينيا الدولرة”، فبات كلّ واحد منّا يقارب أسعار حاجيّاته بحسب الجوّ العامّ الذي يريد أن يعكسه لنفسه (الأمّارة بالسوء) أو للآخرين من حوله.

مثلاً حينما كنت أذهب إلى المتاجر الكبرى مع أمّ زهير، كانت “تشقّع” الأغراض في العربة، وإن قلت لها: “خفّي شوي يا أمّ زهير الأسعار نار”، كانت تردّ مباشرة: “سعرهم ولا شي ع الدولار!” (على أساس أنا أطبع الدولارات بغرفة حمّام الضيوف)، وذلك نتيجة “عقلية الـ1,500” المتجذّرة في نفسها وفي نفس جميع المواطنين.

أمّا أنا حين أضع سلعة تخصّني في العربة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، زجاجة مُنكر والعياذ بالله (غالباً “يوحنّا الماشي” الحمراء… السوداء ما عادت إلنا)، فتنهرني وتقول: “أوووف مليون ومئتا ألف؟ يا ويلك من الله!”. فأقول لها: “إيه حوليهم على الدولار يا أمّ زهير… بتهون مصيبتك”.

هكذا بتنا جميعاً نعتمد عملتين: الأولى هي الليرة لزوم “النقّ” والشكوى والتذمّر من الارتفاع المستمرّ للأسعار وجنونها، والثانية عملة الدولار ودوافعها “التفشيخ” وتسكين الذات وتخدير الجيوب بمصطلحات وعبارات من صنف “يا بلاش” أو “هلق أرخص من قبل”… وخلافه.

هذا الفصام آيل إلى الزوال بفضل الله أوّلاً، وبفضل وزير الاقتصاد أمين سلام (دام ظلّه الشريف) وجهوده الجبّارة، الذي خلص بمشاوراته ودراساته العميقة إلى حلّ سحريّ قوامه “تسعير السلع بالدولار”. حقنة بنج جديدة يمدّنا بها الوزير وتمدّنا بها “حكومة الإنقاذ” على طريق “جهنّم”.

إقرأ أيضاً: الزلزال: “بكرا بتتعوّدوا”

سيقضي سلام بذلك على هذه الآفة، وستتحوّل كلّ الأسعار إلى الدولار فقط. بفضل سلام سنشعر أنّ كلّ الأسعار باتت “عال العال”: أرقام بالـDizaines والـUnités لن تصل أبداً إلى الـCentaines ومصفوفات الأصفار كما بالعملة اللبنانية، ولله الحمد.

عندها ستهون مصائبنا، وسيتبخّر الفصام لصالح “التفشيخ المتواصل”. سننكبّ على الاستهلاك والاستهلاك والاستهلاك، فيما التجّار سيفرحون وسينعمون بدورهم بـ”فردوس” الاستيراد والاستيراد والاستيراد… إذا الله راد.

قولوا آمين… سلام.

 

*هذا المقال من نسج خيال الكاتب

لمتابعة الكاتب على تويتر: abo_zouheir@

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…