كان انعقاد “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” بنسخته الثانية في منطقة البحر الميت الأردنية مناسبة كي يتأكّد المعنيون مباشرة بما يحدث في العراق ومصيره، خصوصاً الأردن ومصر ودول الخليج وفرنسا بالذات، من أنّ الكلام الإيراني شيء والأفعال الإيرانية شيء آخر. إنّه شيء مختلف كلّياً عن الكلام الجميل المنمّق الذي يركّز على الاستقرار والتعاون الإقليمي مع “الجمهوريّة الإسلاميّة”، وهو تعاون لا وجود له في حدّه الأدنى. زادت إيران من عدوانيّتها تجاه كلّ ما هو عربي في المنطقة، وخصوصاً بعدما قدّمت لها إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة في ربيع عام 2003. وإلى إشعار آخر، لم تحِد قيد أنملة عن هذا الخطّ.
انعقد “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” هذه المرّة بحضور رئيس الوزراء العراقي الجديد محمّد شيّاع السوداني، الذي يرمز إلى انقلاب حصل في العراق مكّن إيران من استعادة المبادرة في بغداد
كشفت كلمات الملك عبدالله الثاني والرئيس عبد الفتّاح السيسي والرئيس إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان عن وجود رغبة واضحة في دعم العراق ومنع سقوطه تحت الهيمنة الإيرانيّة، لكنّ المؤسف أنّ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أثار مجدّداً كلّ المخاوف العربيّة والخليجيّة والأوروبيّة دفعة واحدة عندما تطرّق إلى موضوع اغتيال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني وأبي مهدي المهندس نائب قائد “الحشد الشعبي” في العراق. كان ذلك على يد الأميركيين مطلع عام 2020 بُعيد مغادرتهما مطار بغداد! مستدركاً، بعد نهاية المؤتمر، بتغريدة أعلن خلالها استعداد المملكة العربية السعودية لمواصلة الحوار مع إيران، نقلاً عن نظير السعودي.
انعقد “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” هذه المرّة بحضور رئيس الوزراء العراقي الجديد محمّد شيّاع السوداني، الذي يرمز إلى انقلاب حصل في العراق مكّن إيران من استعادة المبادرة في بغداد.
صبرت “الجمهوريّة الإسلاميّة” سنة كاملة قبل أن تقلب نتائج الانتخابات التشريعية التي أُجريت في تشرين الأوّل 2021 وتفرض السوداني رئيساً للوزراء. قضت على أيّ حظوظ في بقاء مصطفى الكاظمي، وهو رجل معقول ومتوازن، في موقع رئيس الوزراء بدعم من مقتدى الصدر. أرادت شخصاً مرضيّاً عنه كلّيّاً يكون نسخة ملطّفة وأقلّ استفزازاً من نوري المالكي، فأتت بمحمّد شيّاع السوداني الحريص على وضع تركيا وإيران في مصافّ واحد عندما يتعلّق الأمر بما يتعرّض له العراق من تهديدات.
اكتفى السوداني في البحر الميت بإثارة موضوع الأمن المائي للعراق، مشيراً إلى أنّه “تهديد وجودي” للبلد، متجاهلاً مواضيع أساسية من نوع استكمال ترسيم الحدود البحريّة بين العراق والكويت. أثار هذا الموضوع الشيخ أحمد نوّاف الأحمد الصباح رئيس الوزراء الكويتي الذي تحدّث صراحة في مؤتمر البحر الميّت عن ضرورة حسم هذه القضيّة بدل لجوء الطرف العراقي إلى المماطلة.
يظلّ “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” أفضل من لا شيء. إنّه يُظهر أن لا تقصير عربيّاً تجاه العراق… ولكن لا رهان في الوقت ذاته على تغيير كبير في بغداد ما دامت اليد الثقيلة لـ”الحرس الثوري” تضغط بقوّة في عاصمة الرشيد
إيران ضدّ “عافية” العراق.. والأردن
تبيّن من جلسة افتتاح “مؤتمر العراق للتعاون والشراكة” الأخير أنّ إيران مستعدّة، من خلال كلمة وزير الخارجية فيها، لوضع كلّ العقبات في طريق استعادة العراق عافيته والتعاطي مع جيرانه ومع العالم المتحضّر، ومنه فرنسا، من دون عقد. لا حاجة إلى الذهاب بعيداً للتأكّد من ذلك. العراق بالنسبة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” ورقة إيرانية مثل أوراق أخرى من بينها سوريا ولبنان واليمن. كان وزير الخارجية الإيراني واضحاً في طلبه إعادة الحياة إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني الموقَّع صيف عام 2015. لا يدري عبد اللهيان، الذي يتمتّع من دون شكّ بشخصية قويّة وقدرة على التحدّث بالعربيّة إلى جانب الفارسيّة في خطاب واحد، أنّ الأحداث العالمية والوضع الداخلي الإيراني جعلا الإدارة الأميركية غير معنيّة بالعودة إلى هذا الاتفاق. لم يعد سرّاً أنّ واشنطن قلقة من التورّط الإيراني في الحرب الأوكرانيّة إلى جانب فلاديمير بوتين. ولم يعد سرّاً أيضاً الدور الإيراني في العراق وتهاون السلطات في هذا البلد مع تمرير الأسلحة الإيرانيّة إلى سوريا، ومنها إلى لبنان.
إضافة إلى ذلك كلّه، إنّ الملك عبدالله الثاني على معرفة بتفاصيل تهريب المخدّرات إلى الأردن من سوريا. بعض هذه المخدّرات يبقى في الأردن فيما ينتقل قسم إلى دول الخليج العربي. مصدر هذه المخدّرات التي تُهرَّب إلى الأردن، وعبره إلى دول الخليج العربي، ميليشيات سورية ولبنانيّة تابعة لـ”الحرس الثوري”. طوّرت هذه الميليشيات نشاطها أخيراً، وبات يشمل تهريب السلاح إلى الأردن. لا يمر أسبوع من دون اشتباك بين القوات الأردنية وعصابات التهريب التابعة لإيران في مناطق حدودية بين الأردن وسوريا. يواجه الأردن، الذي يمرّ حالياً في وضع اقتصادي صعب، مزيداً من الجهود الإيرانية الهادفة إلى ضرب الاستقرار في المملكة الهاشميّة في ظلّ تعاون بين “الحرس الثوري” والإخوان المسلمين الأردنيين والفلسطينيين ممثّلين بـ”حماس” التي عادت إلى دمشق بعد ضغوط إيرانيّة مورست على بشّار الأسد.
ضرورة التغيير في إيران
في غياب التغيير الحقيقي في إيران، وهو تغيير لا بدّ أن تفرضه الشعوب الإيرانيّة، سيبقى الوضع يراوح مكانه في العراق. ستنعقد مؤتمرات أخرى من أجل جعل العراق يستعيد وضعه الطبيعي بصفة كونه إحدى أهمّ الدول في المنطقة. لن تقدِّم هذه المؤتمرات شيئاً. كلّ ما يبدو مطلوباً إيرانيّاً، من جانب نظام الملالي تحديداً، هذه الأيّام هو العودة إلى الاتفاق النووي مع ما يعنيه ذلك من رفع العقوبات الأميركيّة وغير الأميركيّة على “الجمهوريّة الإسلاميّة” كي تستعيد القدرة على تمويل ميليشياتها المذهبيّة المنتشرة في كلّ أنحاء المنطقة… ومن ضمنها العراق نفسه.
إقرأ أيضاً: قمة بغداد “الأردنية”: نفخ الروح في حوار السعودية وإيران
في كلّ الأحوال، صارت اللعبة الإيرانيّة مكشوفة، حتّى عند إدارة بايدن. يظلّ “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” أفضل من لا شيء. إنّه يُظهر أن لا تقصير عربيّاً تجاه العراق… ولكن لا رهان في الوقت ذاته على تغيير كبير في بغداد ما دامت اليد الثقيلة لـ”الحرس الثوري” تضغط بقوّة في عاصمة الرشيد…