لم يعد أحد يُصدّق أنّ الهجوم الروسي الشامل والكاسح على أوكرانيا، هو لضمان عدم انضمامها إلى حلف الناتو. وبات واضحاً، الآن، أنّ هذه الأزمة هي لحظة حاسمة في مسار انبثاق نظام عالمي جديد على تباين مع النظام الدولي الذي نشأ بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، ومن هنا خطورته وشدّته على خريطة العالم.
ولأنّ الحرب هي تكثيف للسياسة وللوقائع، فإنّ غزو روسيا لأوكرانيا هو تكثيف مرعب ومخيف لصراع الدببة بنسختيْه القديمة والجديدة، وليس لعباً على حافّة الهاوية فحسب.
– هو تكثيف لخطاب بوتين، الذي قال بعد خمس سنوات من وصوله للرئاسة إنّ “تفكّك الاتحاد السوفياتي كان دراما حقيقية أبقت عشرات ملايين الروس خارج حدود الفيدرالية الروسية… كان هذا الكارثة الجيوسياسية الكبرى في القرن العشرين”.
عرفت إسرائيل كيف تستغلّ غالبية الأزمات الدولية بجدارة، فمع كلّ أزمة أو حرب أو نزاع تبدأ إسرائيل حساباتها الهادئة
يتطلّع بوتين إلى تغيير اتجاه التاريخ بالقوّة. لا يحارب فلاديمير بوتين أوكرانيا فقط، بل يحارب الولايات المتحدة وحلف الناتو. واحتلال كييف هو مرحلة أوّلية هناك ما بعدها. ومَن اعتقد أنّ هدف بوتين من غزو أوكرانيا هو التوصّل إلى مفاوضات دبلوماسية حول الهندسة الأمنيّة لأوروبا فهو مخطئ. ومَن يعتقد أنّ بوتين سيرتدع بسبب العقوبات الاقتصادية الباهظة الثمن فهو مخطئ.
– الغزو الروسي لأوكرانيا هو تكثيف لأميركا الحائرة، ولضعف إدارة جو بايدن، وهو تكثيف لقيصر أدرك مبكراً أنّه أمام نسخة شائخة من باراك أوباما، وقدَّر أنّ الغرب يعيش ضعفاً تاريخياً سيسمح له بالمشاركة مع الصين، القوّة العظمى الصاعدة، بتحقيق إنجازات في خلق عالم متعدّد الأقطاب.
– تكثيف لمأزق أوروبا، ومأزق قارّة غادرت الحرب بعد تقاعد السلاح. كانت أوروبا مسرحاً لأقسى الصراعات الدموية، حين طحنت نفسها في حربين عالميّتين. وظلّ التاريخ هاجساً يعود بالذاكرة القلقة عندما يتمّ التلويح بالسلاح. أوروبا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مصدومة بعد سحق مدنها ومقتل رجالها وتحطّم مجتمعاتها، أعادت صياغة كلّ مفاهيمها تحت وقع الصدمة. فأصبحت نظمها السياسية تتشكّل ارتباطاً بذلك الضمير الجمعيّ المصدوم كأنّها تودّع تاريخ الدم، وأصبح الاقتصاد أولويّتها، وتحوّلت إلى دول رفاه، وأصبحت المؤسسة بديلاً عن القائد الفرد أو الزعيم.
– تكثيف للحظة السوخوي الروسية في السماء السورية، والانقلاب العسكري والسياسي الذي حقّقته لمصلحة بشار الأسد بعدما شارف على السقوط، وسط تواطؤ أوروبا والولايات المتحدة، وغضّ نظر عن المذبحة السورية. لقد صنعت روسيا ميزان قوة جديداً في سورية، وبدأت تحطّم حصريّة أميركا في إدارة الأزمات الإقليمية. وأصبحت موسكو في سورية على الحدود الإسرائيلية تنسّق معها الضربات على سورية وتلجم إيران من أن تردّ من سورية وتتحكّم بالأسلحة السورية.
لكنّ إسرائيل وجدت نفسها هذه المرّة في مأزق كبير جرّاء اندلاع الأزمة الأوكرانية بهذه الحدّة والاندفاع.
عرفت إسرائيل كيف تستغلّ غالبية الأزمات الدولية بجدارة، فمع كلّ أزمة أو حرب أو نزاع تبدأ إسرائيل حساباتها الهادئة: كيف يمكن أن تحصد مناجلها غلّة أيّ صراع؟
حصل ذلك حين قفزت إسرائيل نحو الاضطراب الذي حدث في الإقليم العربي وأصبح ربحاً صافياً في جيبها، لجهة إضعاف وإنهاك كلّ الدول العربية، وإخراجها من دائرة الصراع معها. ثمّ ركبت إسرائيل على أجنحة الصراع الشيعي السنّيّ، لتصبح في متن تحالف شرق أوسطيّ سنّيّ وليس على هامشه.
يتطلّع بوتين إلى تغيير اتجاه التاريخ بالقوّة. لا يحارب فلاديمير بوتين أوكرانيا فقط، بل يحارب الولايات المتحدة وحلف الناتو
خسارة إسرائيل
يبدو الأمر مختلفاً هذه المرّة. إذ اكتشفت تل أبيب أنّ قضيّتها التي أشغلت بها الكون، وهي الملفّ النووي الإيراني، قضية هامشية أمام قضايا عالمية، وأمام غزو روسيا لأوكرانيا، فلم يعد باستطاعتها تقمّص دور الحيادية أكثر من ذلك.
ليس هذا فقط، فإسرائيل وجدت نفسها بين فكّي كمّاشة، إذ إنّها تتعرّض لضغوطات أميركية من أجل إدانة الغزو الروسي في مجلس الأمن، ويبدو أنّها قرّرت فعل ذلك، وفي الوقت نفسه تخشى استشاطة غضب الدبّ الروسي عليها، وهو غضب مكلف جدّاً في حربها على إيران في سورية. فهي من دون شكّ ستُضطرّ إلى المناورة بين “الدبّ الروسي” و”الذئب الأميركي” في ظلّ أزمة عالمية خطِرة. وفي اللحظة التي نشرت فيها إسرائيل إعلان تأييد لأوكرانيا، أعلنت روسيا أنّها لا تعترف “بسيادة إسرائيل” في هضبة الجولان، التي هي جزء لا ينفصل من سوريا.
لذلك لم يكن موحّداً الردّ الإسرائيلي الرسمي على الغزو الروسي لأوكرانيا. فبينما شجب وزير الخارجية مائير لابيد الغزو، اكتفى رئيس مجلس الوزراء نفتالي بينيت بالقول: “هذه لحظات قاسية ومأساوية، وقلبنا مع مواطني أوكرانيا”. فيما رأى وزير المال أفيغدور ليبرمان، المقرّب من موسكو، أنّ على “إسرائيل أن تبقى في الظلّ”.
وأفادت “يديعوت أحرونوت” بأنّ “لابيد أدان تحت غطاء غربي العملية الروسية بشكل واضح. إلا أنّ بينيت كان حذراً من إدخال إسرائيل في صراع لا ربح فيه، وقال إنّ هذه الحرب ليست من شأن الدولة”، وأشارت أحرونوت إلى “مأزق إسرائيل، وهو الوقوف إلى جانب الروح الغربية التي احتضنتها إسرائيل منذ نشأتها، أو الانتباه إلى العملاق الروسي الذي يلوح في الأفق على أعتاب إسرائيل، في سوريا”.
وتعيش المؤسسة العسكرية والسياسية والعسكرية الإسرائيلية، حالة من القلق من إمكانية تقييد روسيا للنشاطات العسكرية التي تقوم بها تل أبيب في سوريا ودول المنطقة، وذلك من خلال إدخال أسلحة متطوّرة إلى دمشق وطهران لتوثيق العلاقات أكثر مع إيران في ظلّ العملية العسكرية ضدّ أوكرانيا، ولخلق توازن رعب مع الغرب.
الفاتورة في سوريا
تقدّر المؤسسة الإسرائيلية أنّه من أجل أن تردّ موسكو على العقوبات الدولية والأميركية القاسية، قد يمنع بوتين إسرائيل من القيام بعمليّات عسكرية في سورية، وهذا قد يجعل الأمر صعباً عليها في إطار آليّة التنسيق التي تمّ وضعها بين الضبّاط الإسرائيليين والروس.
التقدير الحالي في المؤسسة الإسرائيلية هو أنّ الأحداث الأخيرة قد تدفع روسيا وإيران إلى وضع يقتربان فيه سياسياً وعسكرياً، وقد تدفع العقوبات المفروضة على روسيا بشأن التجارة في مصادر الطاقة بوتين إلى وضع إيران تحت جناحه، والسماح لها من أجل تقريبها منه بالعمل بحرّيّة أكبر في سوريا، وأكثر بكثير ممّا تريده إسرائيل ويمكن أن تحتويه.
بحسب “هآرتس”، هناك مصدر قلق آخر قد ينشأ في حال بدأ الناتو بنشر قوات عسكرية في البحر الأبيض المتوسط، أو في دول المنطقة، وردّ عليه بوتين بنشر أنظمة تعطيل GPS متقدّمة، واستخدام الحرب الإلكترونية والهجمات الإلكترونية من أجل جعل الأمر أكثر صعوبة عليه، فحينئذٍ ستتعطّل الأنظمة التكنولوجية العسكرية والمدنية في إسرائيل.
أكثر ما تخشاه إسرائيل هو أن يعتبر بايدن أنّ أزمة أوكرانيا كونية والثانية إقليمية، لأنّ ذلك سيجعل الوضع التفاوضي الإيراني في جولات فيينا أفضل من أيّ وقتٍ مضى.
هذا يعني بالملموس أنّ إيران ستخرج جرّاء هذه الأزمة المستفحلة في أوكرانيا باتفاق هو أقرب إلى رؤيتها، ولن تكون “مجبرة” على تقديم تنازلات من أيّ نوعٍ، لا في مجال دورها الإقليمي، ولا في مجال صناعاتها العسكرية الصاروخية، ولا في قيود استردادها لأرصدتها المالية، ولا في مجال سياستها التصديرية النفطية.
إقرأ أيضاً: بوتين يلاعب أوروبا… ويحرّك الصرب
لا يمكن، بطبيعة الحال، إغفال صدمة إسرائيل جرّاء تخلّي الولايات المتحدة عن حليفتها أوكرانيا. في هذا الإطار، ذكر المحلّل العسكري يوآف ليمور في مقاله أنّ “الدرس الفوري لإسرائيل ولدول المنطقة واضح، وهو أنّها لا يمكن أن تعتمد على الولايات المتحدة، وعليها أن تعتمد على نفسها فقط. فقد رفع بايدن الراية البيضاء باكراً في وجه بوتين حينما قال إنّ بلاده لن ترسل أيّ جندي للدفاع عن أوكرانيا”.