العمليّة العسكرية الروسيّة في أوكرانيا ليست موجّهة ضدّ أوكرانيا حصراً. بل هي موجّهة ضدّ حلف شمال الأطلسي، وضدّ الولايات المتحدة راعية هذا الحلف وزعيمته. ولذلك السؤال الذي يتردّد الآن هو: كيف وأين سيردّ الحلف وعلى رأسه واشنطن؟
تفرض الواقعية السياسية سؤالاً معاكساً ربّما يكون أشدّ إثارة، وهو: إلى مَن سيوجّه الرئيس فلاديمير بوتين الضربة التالية لطيّ صفحة أوكرانيا ولتكريس الأمر الواقع الجديد؟
بموجب المعادلة السياسية المعتمَدة فإنّ انتخاب رئاسة الدولة يقوم على ثلاثة رؤوس تمثّل المكوّنات الثلاثة. وفي الوقت الحاضر، ممثِّل الصرب هو ميلاوراد دوديك
في السياسة، كما في القتال، الهجوم هو أفضل أنواع الدفاع. وقبل أن يتمدّد الحلف الأطلسي شرقاً حتى حدود أوكرانيا، وجّه إلى الاتحاد الروسي ضربة عسكرية اقتلعت نفوذه من البلقان. كان ذلك عندما قصف الحلف والولايات المتحدة مدينة بلغراد عاصمة صربيا الموالية لموسكو بتوجيه من الوسيط الأميركي ريتشارد هولبروك الذي وصف القنابل الأطلسية يومها بـ”قنابل السلام”. القصف أوقف الهجمات العسكرية الصربية (الأرثوذكسية) على البوسنيين البوشناق (المسلمين) وعلى الكروات (الكاثوليك)، وأدّى إلى وقف الحرب في عام 1995، وإلى ولادة الدولة الجديدة بموجب “اتّفاقية دايتون” التي رعتها الولايات المتحدة، بإشراف هولبروك نفسه (توفّي عن 69 عاماً في عام 2010).
منذ ذلك الوقت وروسيا تعضّ على جرح اقتلاع نفوذها من البلقان. وبالفعل استقطب الحلف الأطلسي دولاً بلقانيّة مثل الجبل الأسود التي كانت جزءاً من المنظومة السياسية العسكرية للكرملين. غير أنّ العمليّة العسكرية التي قامت بها روسيا في كرواتيا تستهدف وقف تقدّم الأطلسي شرقاً وتعطيل نتائجه السياسية، ثمّ العمل على استعادة النفوذ الروسي في البلقان من جديد. ويبدو أنّ ذلك بدأ فعلاً، واضعاً الصيغة الائتلافية بين الصرب والكروات والبوشناق التي قامت عليها البوسنة طوال السنوات الخمس والعشرين الماضية في كفّ عفريت. وإذا انفجر البلقان من جديد فإنّ معنى ذلك أنّ قلب أوروبا الغربية (موقع الثقل في الحلف الأطلسي) قد انفجر أيضاً.
البوسنة هي قلب البلقان. وصيغة الوحدة الوطنية في البوسنة أوهى من خيط العنكبوت. فهي صيغة توافقية بين المكوّنات القومية – الدينية الثلاثة: الكروات والبوشناق، وهما يتحالفان في جزء من البلاد، والصرب في جزء آخر.
يشرف على هذا التوافق مبعوث دولي دائم. ذلك أنّ هذا التوافق يقوم على التحالف الكرواتي – البوشناقي (الكاثوليكي – الإسلامي) الموالي لواشنطن في مواجهة المكوّن الصربي – الأرثوذكسي الموالي لموسكو.
وبموجب المعادلة السياسية المعتمَدة فإنّ انتخاب رئاسة الدولة يقوم على ثلاثة رؤوس تمثّل المكوّنات الثلاثة. وفي الوقت الحاضر، ممثِّل الصرب هو ميلاوراد دوديك.
العمليّة العسكرية الروسيّة في أوكرانيا ليست موجّهة ضدّ أوكرانيا حصراً. بل هي موجّهة ضدّ حلف شمال الأطلسي، وضدّ الولايات المتحدة راعية هذا الحلف وزعيمته
فتح ملفّ الصرب
الآن وفيما كانت النيران الروسية تنهمر على أوكرانيا، أعلن دوديك رغبة الصرب من جديد في فكّ ارتباطهم بالدولة البوسنية الحالية، والعمل على إعلان دولة صربية مستقلّة عن المكوّنين الآخرين.
بهذا الإعلان تعود قضية البوسنة إلى ما قبل اتفاقية دايتون التي رعتها الولايات المتحدة مستبعدةً الاتحاد الروسي، أي إلى الصراع الفئوي الداخلي الذي أودى بحياة مئات الآلاف من الضحايا، أبرزهم ضحايا مجزرة سيبرينتشا (أكثر من ثمانية آلاف من المسلمين قضوا في عام 1995 على أيدي القوات الصربية).
وصفت المحكمة الدولية في لاهاي المجزرة بأنّها “جريمة إبادة”، وحاكمت وحكمت على مسؤوليها العسكريين من الصرب. وعلى الرغم من ذلك يطالب ممثّل الصرب في الرئاسة الثلاثية للدولة بإسقاط صفة الإبادة الجماعية عن تلك الجريمة، وهو ما يرفضه الشريكان الآخران في الرئاسة الكرواتي الكاثوليكي والبوشناقي المسلم. وإذا استقال أيٌّ من الرؤساء الثلاثة، تسقط الرئاسة كلّها.. ويسقط معها النظام الهشّ الذي يحفظ وحدة البوسنة واستقرارها الأمني – السياسي.
قرار الممثّل الصربي دوديك بيد الكرملين. وهذا يعني أنّ الكرملين قادر الآن على إعادة طرح موضوع تقرير مصير البوسنة من جديد، وإعادتها بؤرة متفجّرة في قلب أوروبا إذا شاء ذلك ومتى ما أراد.
ففي التاسع من شهر كانون الثاني الماضي قامت الميليشيات الصربية بعرض عسكري في شوارع سراييفو في الذكرى الثلاثين لـ”إعلان الجمهورية الصربية”. وهو إعلان محظور قانونيّاً لأنّه يترجم مواقف عنصرية انفصالية، وحظره صادر عن المحكمة العليا. وقد تصدّر الاحتفال دوديك نفسه يرافقه السفير الروسي.
بعد ذلك بأيّام قليلة أدرجت الولايات المتحدة دوديك على اللائحة السوداء بتهمة الفساد ومحاولة تعطيل اتفاق دايتون لجرّ البوسنة من جديد إلى حرب أهليّة.
الصرب حلفاء موسكو
في الأساس تقف البوسنة على كفّ عفريت. البوسنيّون يشعرون بذلك، فقد انخفض عدد السكان من أربعة ملايين في عام 1991 (لدى انتهاء الحرب) إلى ثلاثة ملايين اليوم، هاجر معظمهم إلى الدول الأوروبية المجاورة، وخاصة إلى النمسا وألمانيا، وحتى إلى الولايات المتحدة. لكن إذا انفجر الوضع من جديد، قد لا يبقى فيها سوى الصرب باعتبار أنّهم يملكون القوة العسكرية الكبرى، ويحتفظون بمشاعر الكراهية الشديدة للبوشناق والكروات معاً.
تعرف دول الحلف الأطلسي ذلك جيّداً. وتعرف قدرة الصرب، إذا توافر لهم الدعم المادّي والمعنوي من موسكو، على تغيير الوضع الحالي في البلقان. ومن هناك، من البلقان ومن مدينة سراييفو بالذات، أطلق مواطن صربي الرصاصة الأولى التي أشعلت الحرب العالمية الأولى وذهب ضحيّتها ملايين البشر.
إقرأ أيضاً: بوتين يخسر… المقامرة المتهوّرة
في ذلك الوقت اعتقد إمبراطور النمسا أنّ روسيا القيصرية لن تتدخّل إذا ما حرّك قوّاته لتأديب الصرب. لكن حدث العكس، ومُنيت الإمبراطورية بهزيمة منكرة، حتى إنّها تلاشت بعدها كإمبراطورية.
لم تكن العمليّة العسكرية الروسية في أوكرانيا سوى تحريك حجر في لعبة الشطرنج بين الكرملين والحلف الأطلسي.. ولا تزال اللعبة في مراحلها الأولى!!