تمارس القوى السياسية سياسة الهروب إلى الأمام. تكاد الأمور تفلت من بين أيديهم. لا قدرة على التحكّم بمسار التطوّرات، فلا يصدر عنهم سوى تدابير خجولة للحفاظ على الاستقرار الهشّ، بغطاء دولي يخشى من الفوضى الشاملة التي قد تعقّد الوضع أكثر. ولهذا ليس بمقدور أيّ فريق أن يحسم طبيعة السيناريوهات المستقبلية، بما فيها حتمية إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، خصوصاً أنّ الأحداث تشي بأنّ أيّاً من هذه القوى لا يرغب في الخضوع لاختبار صناديق الاقتراع، أقلّه في المدى المنظور.
وهذا ما يفسّر تبادل الاتهامات المبطّنة بين المعنيّين بالسعي إلى تأجيل الاستحقاق أو التخلّص منه. رئيس مجلس النواب نبيه بري متّهم مع رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بالسعي إلى التمديد. رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل محشور في زاوية تراجع شعبيّته (تقول بعض الدراسات إنّ التيار تراجع أكثر من 50% عن شعبية انتخابات 2018)، وها هو “اللا قرار” الصادر عن المجلس الدستوري يثبّت تصويت غير المقيمين في الدوائر الـ15، وهو ما يعني أنّ ترشيح باسيل نفسه بات موضع مراجعة لأنّ “التيار” لم يعد قادراً على تخطّي العتبة (زادت أكثر من ألف صوت) وإحراز حاصل واحد، إذا لم يستعِن بصديق يمدّه بالأصوات لتخطّي العتبة. حتى “القوات” التي تتباهى بأنّها أكثر المتحمّسين لفتح صناديق الاقتراع تعاني من فقدان حليفها السنّيّ، أي “تيار المستقبل”، بشكل يدفعها إلى مراجعة حساباتها.
لجوء باسيل إلى سياسة شدّ العصب المسيحي من خلال اعتماد الخطاب الطائفي، لن يربحه المسيحيين الذين خسرهم “على الطريق”، ولن يأتي بالفئات المتطرّفة التي بالتأكيد ستُفضّل “المنتج الأصلي” وليس “التقليد”
اذاً هو الاستحقاق النيابي الذي يتحكّم راهناً بمسار المواقف والأحداث. وهو الذي يقف خلف الضجّة التي يثيرها جبران باسيل إزاء “اللا قرار” الذي خلصت إليه الاجتماعات السبعة التي عقدها المجلس الدستوري من دون أن يتمكّن من حسم مسألتين بالغتيْ الأهميّة، بالنسبة إلى رئيس “التيار”: كيفيّة احتساب الأغلبية المطلقة في مجلس النواب، أي المادة 57 من الدستور، وتصويت المغتربين.
وهاتان الإشكاليّتان دفعتا باسيل إلى التهديد وإطلاق الوعيد مؤكّداً أنّ ما حصل “لن يمرّ من دون مترتبات سياسية” وأضاف: “هذا نعتبره حلفاً رباعياً في وجهنا لن نسكت عنه ولن نقبل به، ولن نقبل بالمسّ بحقوقنا وتمثيلنا وبصلاحيات رئيس الجمهورية بقرار سياسي وبتغطية من مؤسسة دستورية أو قضائية”، منهياً مؤتمره الصحافي بضرب موعد جديد “تصعيدي” في الثاني من كانون الثاني المقبل.
فهل يمهّد لإعلان طلاقه من “تفاهم مار مخايل”… بعدما صارت نزلات التفاهم أكثر من طلعاته؟
لا بدّ أوّلاً من التذكير بأنّ باسيل لا يقلّ مأزوميّة عن غيره من القوى السياسية، إن لم نقل أكثرهم مأزوميّة:
1- “العهد القوي” في آخر أيامه، وأصعبها.
2- “التيار” في أسوأ أحواله.
3- تكفي الإشارة إلى أنّ أقلّ من ربع حاملي البطاقات الحزبية قد أبدوا استعدادهم للمشاركة في آليّة اختيار المرشّحين للانتخابات النيابية، للتأكّد من حالة الإحباط والاعتراض والإرباك التي تسود القواعد الحزبية.
4- أمّا خارج التيار، فقد نجح باسيل في مخاصمة كلّ القوى السياسية، ليصير بلا أيّ حليف تقريباً!
5- ومع الخارج يبدو “العهد” معزولاً إقليمياً ودولياً، مع عقوبات على باسيل وتهديدات بعقوبات على المزيد من “رجال العهد”.
[VIDEO]
أزمة جبران والبيطار
الهاجس الانتخابي والخشية من التعرّض لانتكاسة في أرقام الحواصل الانتخابية والنتائج هما اللذان يدفعان باسيل إلى خوض المعارك على كلّ الجبهات بشكل شبه “انتحاري”. تملي عليه المزايدة الشعبية مواجهة “الثنائي الشيعي” في التحقيقات العدلية بقضية مرفأ بيروت والمحقق العدلي طارق البيطار، فقط لأنّ “القوات” حوّلتها إلى قضية مسيحية، وهي ليست كذلك. فصار باسيل مضطرّاً إلى اعتماد الخطاب ذاته. مع أنّ المنطق السليم يقول إنّ اعتماد الخطاب المتشدّد يعني أنّ على المسيحيين الالتحاق بـ”القوات” لا “التيار”، لأنّها بالأساس منشأ هذا الخطاب، لا التيار الذي يُتّهم بأنّه من “المرتدّين” إليه.
وهذا ما يعني أنّ لجوء باسيل إلى سياسة شدّ العصب المسيحي من خلال اعتماد الخطاب الطائفي، لن يربحه المسيحيين الذين خسرهم “على الطريق”، ولن يأتي بالفئات المتطرّفة التي بالتأكيد ستُفضّل “المنتج الأصلي” وليس “التقليد”.
في المقابل، فإنّ إصراره على رفع السقف بوجه “الثنائي الشيعي” سيجعل من معركته الانتخابية صعبة جدّاً. ذلك لأنّ “حزب الله” يخطّط منذ مدّة للسعي إلى تعويض “التيار” بالأصوات التي قد يخسرها في كلّ الدوائر المشتركة، لا بل أكثر من ذلك، يحاول إقناع الحلفاء من قوى الثامن من آذار للتفاهم مع باسيل لتأليف لوائح مشتركة من شأنها أن تحسّن وضع التيار الانتخابي. ويعود ذلك إلى أنّ “الحزب” ليس على استعداد للتفريط بالقاعدة المسيحية التي يمثّلها “التيار” حتى لو ضعفت، وسيحاول دعمها بشتى الطرق. ولذا قد يصعّب خطاب باسيل العدائي تجاه الثنائي الشيعي المهمّة على “حزب الله” لإقناع الجمهور الشيعي بالتصويت لحليف بات يحمّله مسؤولية “خراب البصرة”.
إقرأ أيضاً: هل من تسوية “بالمفرّق” بعد الأعياد؟
النتيجة أنّه إذا استمرّ رئيس “التيار” بهذا الأداء، فسيكون على وشك خسارة آخر حلفائه من دون أن يربح المسيحيين… إلا إذا كان بصدد استدراج عروض من الأميركيين بشأن العقوبات المفروضة عليه، مع أنّ المعلومات تجزم أنّ محاولات باسيل للتخلّص من إدراجه على لوائح العقوبات اصطدمت بعراقيل قانونية كثيرة تحول دون تحقيق العكس.
هكذا يرى المتابعون لملفّ العلاقة بين “الحزب” و”التيار” أنّ باسيل يضع نفسه أمام خيار وحيد: الاستمرار بسياسة التصعيد بوجه الثنائي الشيعي، لكن من دون إشهار “الطلاق”، لأنّه عاجز عن القفز إلى ضفّة أخرى بعدما صار شبه محاصر على المستوى الداخلي والخارجي، ومعظم القوى السياسية تشحذ سكاكينها بوجهه. وهو لهذه الأسباب لا يزال يحتاج إلى أصوات الثنائي الشيعي، إذا ما خضع لاختبار الانتخابات. مع العلم أنّ سياسة التصويب نحو الثنائي لن تمرّ من دون أكلاف سياسية، وتحديداً في صناديق الاقتراع. ولهذا يرى هؤلاء أنّ أقصى ما يمكن له تحقيقه في المدى المنظور هو العمل على الحدّ من خسائره التي صارت كثيرة وقد تجعله في أكثر لحظاته السياسية ضعفاً.
للبحث صلة: ميقاتي يستقوي على باسيل وعون؟؟