حين نفى وزير الطاقة الأسبق سيزار أبي خليل وجود عرض من “سيمنز” الألمانية لإصلاح قطاع الكهرباء، ذهبت الواقعة نادرةً من نوادر الكوميديا السوداء رغم الشهود الكثر. كاد الرجل أن ينفي استقبال وفد الشركة، بل أن يكون في العالم شركة اسمها “سيمنز”.
لكنّ الأمر مختلف في شأن ما يُحكى عن عرض ألماني لإعادة بناء مرفأ بيروت ونصف العاصمة المدمّر. لا وجود لمثل هذا العرض، والنفي ليس من أبي خليل هذه المرّة.
ما هو ذلك “المشروع الألماني” للإعمار الذي عُرِض في مؤتمر صحافي قبل أيّام؟
يمكن البحث قليلاً في “بروفايلات” الشركات المشاركة في إعداد العرض التقديميّ للتأكّد من أنّ الأمر لا يعدو كونه حفل علاقات عامة لشركتين استشاريّتين، إحداهما “كوليرز” التي تعمل في مجال استشارات التطوير العقاري، والأخرى “هامبورغ لاستشارات الموانئ – HPC”، وهي أيضاً استشارية كما يشير اسمها. وفي العرض أيضاً اسم مؤسّسة “فرانهوفر” البحثيّة الألمانية.
ليست أيّ جهة من الجهات الثلاث استثماريةً أو تمويليةً يدخل مثل هذا المشروع في نطاق أعمالها، ولم تعرض أيٌّ منها استثمار دولار واحد في المشروع الذي عُرضت رسومه وماكيتاته. “كوليرز” ليست مطوّراً عقارياً من طراز “سوليدير” في لبنان أو “إعمار” أو “نخيل” أو “الدار” في الإمارات. وHPC ليست مشغّلةً للموانئ على غرار PSA السنغافورية أو “كوسكو” الصينية أو “موانئ دبي العالمية”.
حين نفى وزير الطاقة الأسبق سيزار أبي خليل وجود عرض من “سيمنز” الألمانية لإصلاح قطاع الكهرباء، ذهبت الواقعة نادرةً من نوادر الكوميديا السوداء رغم الشهود الكثر. كاد الرجل أن ينفي استقبال وفد الشركة، بل أن يكون في العالم شركة اسمها “سيمنز”
الشركتان استشاريّتان، وكانتا صريحتين في كون ما تعرضانه ليس أكثر من تصوّر وهيكل تنظيميّ مقترحٍ لحوكمة المشروع ولحركة الأموال التي يمكن أن تأتي إليه. ويكفي أن يقدّر التصوّر التكلفة الاستثمارية للمشروع بنحو 7.2 مليارات دولار، وهو رقم يتجاوز كثيراً إمكاناتهما.
وكان زُجّ باسم الحكومة الألمانية في الهيكل التنظيمي للمشروع على سبيل الاقتراح أن يكون لها دور استشاري ورقابي، لا أكثر. السفير الألماني في بيروت أندرياس كيندل لم يقُل حرفاً واحداً يوحي باستعداد بلاده لتوفير تمويلٍ للمشروع أو ضمانٍ لتنفيذه.
وفي الهيكل المقترح ما يشير إلى تشكيل هيئة من قبل البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي والحكومة الألمانية، وإلى تقديم تمويل من بنك الاستثمار الأوروبي. كلّ ذلك على سبيل الاقتراح، من دون إقرار من الجهات الوارد ذكرها.
المشروع برمّته لا يعدو أن يكون شيئاً من جنس العروض التي تقدّمها الشركات الاستشارية لزبائنها لتبيع فكرة أو تصوراً أو تصميماً، أو تحجز حضوراً مستقبلياً حين تتغيّر الظروف السياسية وتحين اللحظة لاستدراج العروض الاستشارية.
الأهمّ من كل ذلك أنّ المشروع مفصول عن أيّ سياق يعطيه شيئاً من الجدّيّة. فأيّ حديث عن استثمار لا بد أن يرتبط بالعائد والجدوى الماليّة. وعندما يتعلّق الأمر بمشروع بسبعة مليارات دولار، لا بد من الالتفات أوّلاً إلى مستقبل المدينة، سياسياً واقتصادياً واستثمارياً.
السفير الألماني في بيروت أندرياس كيندل لم يقُل حرفاً واحداً يوحي باستعداد بلاده لتوفير تمويلٍ للمشروع أو ضمانٍ لتنفيذه
سوليدير جديدة؟
ليس في تاريخ لبنان شيء مشابه سوى مشروع “سوليدير”، الذي كان قصّة نجاح مبهرة في تغيير وجه المدينة، لكنّه أصبح قصّة حزينة في مآله النهائي بالنسبة إلى المستثمر، بعدما عبثت بوسط المدينة هزّات لا تُحصى، بدءاً باغتيال الرئيس رفيق الحريري عند أطرافه، ثم التظاهرات المتتالية، فحرب تموز 2006، فاعتصام “حزب الله” المسلّح بين 2006 و2008، ثم اجتياح 7 أيّار، مروراً بعبث الغوغاء تحت لافتة الثورة والأزمة الاقتصادية الخانقة، وصولاً إلى ذروة التراجيديا في انفجار 4 آب 2020. ذاك مسلسل لا يشجّع أيّ مستثمر على خوض المغامرة.
زد على ذلك أنّ أيّ خبير في الاستثمار لا بدّ أن يضع يده على هفوات كبرى في التصوّر المقدّم من “كوليرز” وHPC، ولا سيّما في افتراضات العوائد الاستثمارية والأرباح وفرص العمل الدائمة التي يوفرها، والتي يبدو كثيرٌ منها اعتباطياً أو مرتجلاً.
يحلو للّبنانيين تجاوز كل ذلك وإقناع أنفسهم أنّ الشرق والغرب يتنافسان على مرقد عنزة في قطعة السماء هذه، وأنّ الألمان والفرنسيين والأميركيين والصينيين والإماراتيين يتسابقون لبناء المرفأ المدمّر. في الأمر امتداد لسرديّةٍ غائرة في الوعي العامّ عن تناحر القناصل في القرن التاسع عشر، وما حيك من مقولات عن “حروب الآخرين” التي تبرّئ الذمّة الوطنية من إثم الاقتتال.
ليس في تاريخ لبنان شيء مشابه سوى مشروع “سوليدير”، الذي كان قصّة نجاح مبهرة في تغيير وجه المدينة، لكنّه أصبح قصّة حزينة في مآله النهائي بالنسبة إلى المستثمر، بعدما عبثت بوسط المدينة هزّات لا تُحصى
ينفصم هذا الوهم عن واقع الحال لبلدٍ مهمل سياسياً، لا أحد يفكر في دورٍ له أو إشعاع، بل جلّ التفكير في الحدّ من أذاه. وعند هذا الحدّ من يغامر باستثمار سبعة مليارات دولار في مدينة لم تحفظ بريق وسطها الأخّاذ؟
حين أُعيد إعمار وسط بيروت في التسعينيّات، لم تكن “سوليدير” نفسها فكرةً خارقةً للعادة، بل كانت إمكانات رفيق الحريري كذلك. كثيرةٌ هي الشركات التي يمكنها رسم الماكيتات وإعداد عروض “الباور بوينت” في ليلة أو ضحاها، لكن ماذا يعني ذلك من دون سياق سياسي أو قوّة دفع كتلك التي أتى بها رفيق الحريري؟
إقرأ أيضاً: ألمانيا والمرفأ: استثمار 10 مليارات دولار يسابق عصا العقوبات
يحتاج بناء المرفأ وإعادة إعمار العاصمة إلى ما هو أكثر بكثير من رسومات ومؤتمرات صحافية. يحتاج إلى تصوّر لدى الحكم لِما تعنيه بيروت، وما هويّتها، وما دورها المراد في الإقليم. ويحتاج قبل ذلك إلى وجود مؤسسة حكم.
أيّ مرفأ لأيّة مدينة؟ ذاك هو السؤال.
بيروت اليوم، كما هي، لا يلائم حالها سوى مرفأ لتهريب الأمونيوم إلى النظام السوري، وتهريب البضائع وأشياء أخرى تحت جنح النفوذ والفساد وسطوة الميليشيا. لا يمكن أن يكون حال بيروت كحال صنعاء ودمشق ويكون مرفؤها كجبل علي أو ميناء زايد أو ميناء الملك عبد العزيز في الدمّام.
فلتتّجه بيروت شرقاً بالمعنى الذي يريدون، ويكفيها حينذاك ميناء كميناء الحُدَيْدة أو مرفأ طرطوس.