بين 17 آذار و7 نيسان كلمتان رئاسيتان من ميشال عون إلى “اللبنانيين” كرّستا المنحى البالغ الخطورة للأزمة وأظهرتا عدم التجاوب الواضح من الرئيس المكلّف سعد الحريري مع الدعوة التي وجّهها إليه رئيس الجمهورية قبل نحو ثلاثة أسابيع حين خيّره “بين المجيء إلى قصر بعبدا من أجل التأليف الفوري للحكومة بالاتفاق معي، وفق الآلية والمعايير الدستورية المعتمدة في تأليف الحكومات من دون تحجّج أو تأخير، أو إذا وجد نفسه في عجز عن التأليف فعليه أن يفسح في المجال أمام كل قادر على التأليف”. أمّا رعاة التسوية المنشودة فلهم كلام آخر. الفرنسيّون غاضبون جداً وبقّوا البحصة أخيراً على لسان وزير الخارجية جان إيف لودريان: “انتظروا العقوبات”.
وكان النائب جبران باسيل كشف، في تغريدة له أمس سبقت كلام عون من بعبدا وتلت “المرافعة الأخيرة” من وزير الخارجية الفرنسي، أنّه “كان ولا يزال يتجاوب مع أي رغبة فرنسية بزيارة باريس، أو بلقاء في أيّ مكان ومع أيٍّ كان بلا عِقد أو حجج”.
ويقول مطّلعون على موقف باسيل إنّ الأخير “لم يكن يمانع بدايةً لقاء الحريري في بيت الوسط. وحين برزت الرغبة الفرنسية بحصول هذا اللقاء في باريس بعد تفاقم التوترات بين الجانبين، رحّب بهذا الأمر، لكنّ باسيل يتّهم الحريري صراحةً، ليس بنسف لقاء باريس فقط، بل بالوقوف أيضاً ضدّ كلّ مساعي تأليف الحكومة لتسديد الضربة القاضية للعهد. وقد تنصّل الرئيس المكلّف من هذا الموعد بعدما تبلّغ رسمياً من الفرنسيين بموعده”.
لكن مع ذلك أبقى باسيل باب الحوار مفتوحاً مع الحريري ربطاً بوجود هاجس حقيقي من العقوبات الأوروبية التي كان يفترض أن تُشطب من الخيارات المحتملة لصالح عقد طاولة لبنانية جامعة في باريس من ضمن أركانها باسيل، كما تفيد مصادر مطّلعة. أمّا الباسيليون فيجزمون: “العقوبات تعني دفن المبادرة الفرنسية”.
كان النائب جبران باسيل كشف في تغريدة له أمس سبقت كلام عون من بعبدا وتلت “المرافعة الأخيرة” من وزير الخارجية الفرنسي أنّه “كان ولا يزال يتجاوب مع أي رغبة فرنسية بزيارة باريس، أو بلقاء في أي مكان ومع أيٍّ كان بلا عِقد أو حجج”
وبين الكلمتين الرئاسيّتين تراكم المزيد من الألغام التي تزنّر تأليف الحكومة، ومن ضمنها التهديد الصريح، الذي كان وجّهه عون إلى حاكم مصرف لبنان ووزير المال، والتحذير من محاولة تعطيل التدقيق الجنائي الذي كان ولا يزال، بتأكيد قريبين من رئيس الجمهورية، “الشرط الأهمّ والممرّ الإلزامي للتشكيل والذي يفوق بأهميته تأليف الحكومة”.
وبلغ النزاع مداه مع ادّعاء المدّعي العام لجبل لبنان القاضية غادة عون على رياض سلامة أمس في ملف التحويلات المالية إلى الخارج وجرم تبييض الأموال والمضاربة على العملة الوطنية وصولاً إلى انهيارها. وجاء هذا الادّعاء بعدما كانت ادّعت عليه في 28 كانون الثاني الفائت بجرم إساءة الأمانة في إدارة “الدولار المدعوم”.
وبعد الفرنسيين وسفراء الدول المؤثرة وغير المؤثرة في الأزمة اللبنانية، فقد كان آخِر الذين شكا إليهم رئيس الجمهورية تهرّب قيادات سياسية كبيرة في لبنان من التدقيق الجنائي، يتقدّمهم الحامي الأوّل لهم مالياً رياض سلامة، هو وزير الخارجية المصري سامح شكري. فقد أصرّت دوائر القصر الجمهوري على الإشارة إلى هذا البند من ضمن جدول المحادثات مع الزائر المصري، بوصف التدقيق من “الإصلاحات الضرورية على عاتق الحكومة الجديدة لمحاسبة الذين سرقوا أموال اللبنانيين والدولة”.
لكنّ هذا الواقع لم يلغِ خطوة باريس الأكثر وضوحاً منذ إعلان المبادرة الفرنسية غداة انفجار الرابع من آب عبر تأكيد لودريان أمس أنّه “يوجد أشخاص محدّدون مسؤولون مسؤولية واضحة عن الأزمة”، وأنّ “اقتراحات قيد الإعداد ضد من فضّلوا مصلحتهم الشخصية على المصلحة العامة، والأيام المقبلة ستكون مصيرية”.
تحدّث لودريان عن “قوى سياسية عمياء ترتكب جريمة من خلال عدم الالتزام بتعهّداتها”، قائلاً: “يجب أن يتوقّف التعطيل المتعمّد من بعض اللاعبين عبر طلبات تعجيزية (أو طائشة) تعود إلى زمن ولّى”. وهي رسالة، كما قال لودريان، سبق للرئيس إيمانويل ماكرون أن مرّرها إلى المسؤولين اللبنانيين أوّل من أمس.
وكان لودريان، نهاية آذار الفائت، بعد لقائه عون وبرّي والحريري، قد مهّد لهذه الخطوة بحديثه عن “تحذيرات” وجّهتها فرنسا إلى كبار المسؤولين اللبنانيين من أنّ الاتحاد الأوروبي يبحث سبل ممارسة ضغوط على من يعرقلون التوصل إلى تسوية، وكانت سبقتها رسائل مماثلة.
بدا عون أكثر من أي وقت مضى متمسّكًا بمسار التدقيق الجنائي بوصفه أيضًا المدخل لأي تسهيل حكومي
وتؤكّد معلومات أنّ زيارة شكري تأتي، بالتنسيق الكامل مع الفرنسيين، متماهيةً مع زيارة مساعد الأمين العام لجامعة الدول العربية حسام زكي، وفي سياق الضغط المتوازي على مفاتيح الحلّ في لبنان للخروج بتسوية تسحب البلد المنهار من فم التنين. فقد تكاملت مواقف كل من باسيل “الحكومية” ومواقف عون المتعلّقة بالتدقيق الجنائي، وأظهرت تشبّثاً بالسقوف وطلباً “للعون من اللبنانيين للوقوف بوجه أكبر عملية نهب في تاريخ لبنان”. وكان لافتاً استثناءُ شكري من جولته كلاً من الرئيس حسّان دياب وحزب الله وجبران باسيل.
وبدا عون، أكثر من أيّ وقت مضى، متمسّكاً بمسار التدقيق الجنائي بوصفه أيضاً المدخل لأيّ تسهيل حكومي.
وبدا لافتاً تعويل رئيس الجمهورية على حكومة تصريف الأعمال في المرحلة الراهنة مع تأكيده أنّ “إسقاط التدقيق الجنائي هو ضرب لقرار الحكومة التي أدعوها إلى عقد جلسة استثنائية، واتّخاذ القرار المناسب لحماية ودائع الناس، وكشف أسباب الانهيار، وتحديد المسؤوليات تمهيداً للمحاسبة واسترداد الحقوق”.
ويقول مطّلعون على أجواء بعبدا إنّ عون رسمياً بات يقدّم معركة التدقيق الجنائي على معركة الحكومة، وهذا ما يفسّر قوله في نهاية كلامه: “دعونا نكتشف معاً الحقائق لنسترجع الحقوق عبر التدقيق الجنائي… ولاحقين نختلف بالسياسة”.
إقرأ أيضاً: التدقيق الجنائيّ: لائحة “الكذّابين” طويلة
وقد تضمّن خطاب عون سلسلة رسائل في كلّ الاتجاهات. فقد اتّهم:
– الزعماء السياسيين بأنّه “ما كان ليحصل ما حصل لو لم توفّروا بالحدّ الأدنى الغطاء للمصرف المركزي والمصارف الخاصة ووزارة المال”.
– المصرف المركزي بمخالفة قانون النقد والتسليف و”كان لزاماً عليك أن تنظّم العمل المصرفي وتأخذ التدابير لحماية أموال الناس في المصارف وتفرض معايير الملاءة والسيولة”.
– المصارف “بالتصرّف بأموال المودعين بعدم مسؤولية طمعاً بالربح السريع ومن دون “توزيع المخاطر” على ما “تقتضيه أصول المهنة”، مع اتّهام “جميع الحكومات والإدارات والوزارات والمجالس والهيئات بمسؤوليتها عن كل قرش أُهدر، وجميعها يجب أن يشملها التدقيق الجنائي”.
– والدول التي تدّعي، كما قال، التضامن مع اللبنانيين وتطالب بالشفافية في المركزي، وبالإصلاحات المالية والنقدية، طَلَب منها المساعدة في “كشف عمليات تحويل أموال أخذت بعد 17 تشرين الأوّل 2019 طابع التهريب المالي، وهذه الأموال هي بالعملات الأجنبية، وتحوّلت من لبنان إلى مصارف معروفة حول العالم”.
[VIDEO]