كاد سمير فرنجية، ألله يرحمه، أن يهمس في أذني وهو يسألني: “هل يمكن أن تكون محاولة الاغتيال التي تعرض لها صديقنا سمير (جعجع) قد أثّرت في أدائه السياسي وقراراته، فصار يبتعد، خلافاً للسابق، عن مواقف يحتمل أن يصنّفها “حزب الله” تحدِّياً عميقاً له؟”. أجبته، على ما أذكر، مؤكّداً استبعادي لهذه الفرضية. وقلت: “قد تكون للرجل حساباته، وحلفاؤه لا يعرفونه جيداً فيُخطئون في أسلوب التعامل معه”.
أذكر جيداً في مثل هذه الأيام، تحديداً في 4 نيسان 2012، وكان ثُلاثاء، نجاتك من ثلاث رصاصات قنص ثقيلة وبعيدة المدى، أطلقتها بنادق محترفة جداً، من مسافة تقارب كيلومتراً، رسمت حول رأسك دلتا افتراضية مخيفة، بينما كنت تتمشّى في حديقة أمام منزلك في معراب. بعض الناس، كما العادة، شكّاك لم يصدق، وبعضهم الآخر سخيفٌ نسج روايات تهريجيّة عن زهرة كنت هممتَ بقطفها في تلك اللحظة. لكنّك اصطحبتني إلى المكان الذي كنتَ فيه وسمحتَ لي بأن أصوّرَ آثارَ الرصاصات، بشرط ألا أنشرها في “النهار”، نزولاً عند طلب المدّعي العام لجبل لبنان كلود كرم.
كان عمر تحالف “قوى 14 آذار” سبع سنين، وكان يبدو مترنّحاً بين حين وآخر. بعد ثمانية أيام على محاولة اغتيالك، الأربعاء 12 نيسان، التقيت في صالة الاجتماعات الكبيرة في معراب 200 شخصية تقريباً، حزبية ومستقلة، قسم كبير منها من الكتّاب “صُنّاع الرأي العامّ”، من أبرزهم نصير الأسعد، ألله يرحمه. وكان أكثرهم تأثّراً وهو يتوجّه إليك بصوتٍ مدوٍّ، بصيغة الوجع على لبنان. سجّلت في دفتر صغير أحتفظ فيه ببعضٍ من كلمته: “محاولة اغتيال بهذا الحجم ونجتمع بعد أسبوع؟ هذا يعني أنّ 14 آذار تعاني تبلّداً. لم نخرج لنواجه بعدَ حدثٍ مفصليّ خطيرٍ كهذا. وها نحن نمارسُ معارضة نيابية تحت سقف الحكومة (حكومة الرئيس نجيب ميقاتي)، ونردّ على كلّ ما يُرتكب بالقانون والدستور وبتحميل الحكومة المسؤولية. في الوقت نفسه نترك الشارع. ننسحب كأنّنا قرّرنا “خَصي” أنفسنا. لا أقترح مسّاً بالاستقرار، لا سمح الله، ولكن إذا كانت محاولة اغتيال سمير جعجع لا تحرّك مشاعر الشارع فهذه مصيبة. المطلوب إعادة النظر في قرارَيْ إبقاء الحكومة والتخلّي عن الشارع. علينا استعادة عوامل قوّتنا وإعادة النظر في استراتيجيتنا. نحن ننتقد وننأى بأنفسنا عمليّاً. نحتاج إلى موقف سياسي جريء كالذي اتّخذناه جميعاً يوم اغتيال الرئيس رفيق الحريري. اجتمعوا أيّها القادة وضعوا لنا الاستراتيجية التي ترون. ونحن معكم”.
يا للأسف لم يظهر بعدُ أنّ إعادةَ القراءة قد حصلت فعلاً. ما زالت أدبيّات “القوّات” في مرحلة سؤال الآخرين عندما يخالفون الرأي “مَن أنتَ، ما وزنك، ما حجم تمثيلك، فنحن عندنا 15 نائباً، أين ضحّيت، من أنت لتبدي رأيك؟”
وأجبتَ عندما أعطاك مدير جلسة الحوار سمير فرنجية الكلام: “أفلتُّ من محاولة الاغتيال، ولكن لم أفلت من نصير. أوافقك وأحيّي الروح التي عبَّرت عنها. لكنّي سياسيّ وعليّ إجراء حسابات قبل تجسيد النفحة الثورية. التحرّك قبل الأوان خطأ. لا نتحرّك إذا لم يكن أمامنا هدف سياسي نحقّقه. كل دول العالم شرقاً وغرباً تضع سوريا هذه الأيام في رأس اهتماماتها ولا وقت لديها للبنان مهما حصل فيه. وخلال هذا الوقت، يضعف الفريق الآخر ويخسر يوماً بعد يوم ومن تلقاء نفسه. إذا كانت الغاية التعبير عن فورة فإنّها لا تستحق، في حين أنّ الأوضاع ذاهبة إلى حيث نريد ونتمنّى. ونحن لسنا خائفين ولن نساوم ولا نريد عقد صفقات، بل ننتظر اللحظة المناسبة للعمل السياسي المناسب. و14 آذار بألف خير”.
وقال سمير فرنجية ما فحواه أنّ “لدى شعب 14 آذار شعوراً بأنها لا تملك خطة ولا رؤية. نرى تغيّراً كبيراً في المنطقة، وليس معروفاً، على وجه التحديد، متى دورنا. نحن أطلقنا الشرارة الأولى للربيع العربي، وعندما تحقق وكان التحوّل الكبير، لم يعد لدينا جملة مفيدة نقولها. إنّ لبنان يعاني سقوطاً أخلاقياً لم نشهد له مثيلاً حتى في مراحل الحرب، وهذا يولّد صدمة. والكلام عن أخطاء الحكومة يشمل أطرافاً غيرها كثيرين ليسوا من 8 آذار حتماً. الناس يرون مؤسسات الدولة آيلة إلى السقوط العامّ، و14 آذار تنتقد وتساجل في السياسة التي أصبحت مملَّة. هل من شيء جديد؟”.
ليست الغاية من هذه الرسالة استعادة ذكريات، ولا إثارة حنين إلى زمن “14 آذار” التي سقطت ولن تعود، بل أخذ العبرة من أجل المستقبل الآتي. والدافع هو أحاديث – تنظيرات في المجالس السياسية، عن ضرورة تشكيل جبهة معارضة وطنية، تتصدى للسلطة السياسية، بحسب تعبيرك، ومَن هُم خلفها (في مقابلة مع “لوريان لو جور بتاريخ 25 كانون الثاني 2021: “ناقشنا داخل الحزب وفي مناسبات عدّة فكرة تشكيل جبهة موحّدة تتمتع بهامش مناورة يسمح لها بإحداث انفراج في المشهد السياسي، وأردنا تحديد الهدف الدقيق لهذه الجبهة، فتركّز النقاش بشكل رئيسي على الانتخابات التشريعية المبكرة والانتخابات الرئاسية المبكرة”). وليس القصد لوم قيادة حزب “القوات” على الابتعاد عن الناس الذين يقرأون ويكتبون ويفكّرون، وعدم التفاعل معهم منذ جريمة محاولة الاغتيال تلك. فالخيار خيارُها، وكل حزبٍ حرٌّ حتى لو كان من صانعي “انتفاضة الاستقلال – 2005”. وليس لأحد أن يُملي على غيره قراراته أو يعاتبه عليها حتى لو كانت انتحارية، على غرار رفع “أوعى خيّك” شعاراً وعنواناً لمرحلة من تاريخ “القوات” ولبنان. فالحكم عليها أو لها سيكون للتاريخ، وبناءً على النتائج.
إنّما هي دعوة إلى استخلاص عبرة، في حال التوجه اليوم أو غداً إلى إنشاء جبهة سياسية جديدة، أياً يكن أطرافها، من التجربة الماضية التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه اليوم. إنّها رسالة حضٍّ على إعادة قراءة المرحلة السياسية التي عبرت، وأسلوب التعامل مع من يفترض أنّهم حلفاء. دعوة تصلح طبعاً لجميع القوى التي شكلت في ما مضى “قوى 14 آذار”. تنطبق على سعد الحريري ووليد جنبلاط، مع حفظ الألقاب، كما على جعجع. لكنّها موجّهة إليك ومخصّصة لك لأن الآخرين يبدون، استناداً إلى قراءاتهم للوضع وحساباتهم، متماشين مع الجوّ السياسي العامّ المهيمن على البلاد، وعلى خلاف المشهد من معراب، لا يراودهم همّ تجميع حلفاء، لمحاولة تغيير الأمر الواقع المزري على كل الأصعدة.
للأسف لم يظهر بعدُ أنّ إعادة القراءة قد حصلت فعلاً، أو أنّ هناك نيّة للخوض فيها. ما زالت أدبيّات “القوّات” في مرحلة سؤال الآخرين عندما يخالفونها الرأي: “مَن أنت؟ ما وزنك؟ ما حجم تمثيلك؟ فنحن عندنا 15 نائباً. أين ضحّيت؟ مَن أنت لتبدي رأيك؟”.
نعم أخطأ الحلفاء الآخرون بحقّ أنفسهم وبحقّك. ربّما شفع لهم أنّهم لا يعرفونك. ولكن هل سألتهم رأيهم قبل إعلان ترشّحك للرئاسة عن “قوى 14 آذار”؟
أسلوب مخاطبة رائج وصار معتمداً بعد “اتفاق معراب” مع “التيار العوني” تحت ستار تحقيق “المصالحة المسيحية” التي تبيّن أنّها مجرد خدعة ساهمت مساهمة رئيسة في إيصال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية. والأفظع أنّها أفقدت لبنان الثقل المعنوي الذي شكلته روح المقاومة في البيئة المسيحية. مقاومة تجسّدت في “القوات اللبنانية” باعتبارها مؤسسة الشهداء دفاعاً عن لبنان وحريته وسيادته واستقلاله. ليست حزباً سياسياً يتصرّف ويقرّر على أساس الربح والخسارة في المواقع والأحجام، وضمن التركيبة التقليدية كباقي الأحزاب.
إنّما هي دعوة، من دون تطلّع إلى أيّ مصلحة أو غاية، إلى التواضع ورحابة الصدر، كما كانت سائدة خلال مؤتمر التضامن معكَ بعد محاولة الاغتيال في معراب، وإلى القبول باحتمال الوقوع في الخطأ، ثمّ التخلّي عن أسلوب تغطية حقيقة ما جرى فعلاً. على سبيل المثال: كلّا، لم يكن سليمان فرنجية ليصير رئيساً للجمهورية لو لم تندفع “القوّات”، في حالة من التسرّع غير المبرّر، في تأييد ترشيح الجنرال عون عام 2016. ظهر واضحاً أنّ حسن نصرالله كان صادقاً في وعده لميشال عون، وفي قوله للأحزاب والكتل النيابية: “تريدون رئيساً؟ توجّهوا إلى البرلمان وانتخبوا ميشال عون”. حتى سليمان فرنجية لم يجرؤ على انتخاب نفسه فكيف يصير رئيساً؟ حتّى لو افترضنا أنّ عون أو غيره من حلفاء “حزب الله” كان سيصير رئيساّ للجمهورية، فإنّ دور “القوات” وسبب نشوئها أن تقف مع لبنان وشعبه المتمسّك بالحرية، وليس عقد تسويات وصياغة أوراق مع شخص لا أحد يعرفه أكثر منك يا دكتور جعجع. هل توقّعت حقاً أن يلتزم بما تعهّد به؟ دعنا من ذريعة جبران باسيل، فهو وَصَفَهُ صادقاً بأنّه “تلميذه”.
نعم أخطأ الحلفاء الآخرون بحقّ أنفسهم وبحقّكَ. ربّما شفع لهم أنّهم لا يعرفونك. نعم، لقد كان ترشيح فرنجية محاولة اغتيال سياسي من وجهة نظرك وليس خيانة ثقة حليف فحسب. لكنّك أيضاً، هل سألتهم رأيهم قبل إعلان ترشّحك للرئاسة عن “قوى 14 آذار؟”. وفي عام 2016 ألم تفوّت فرصة أن تكون قائد معارضة وطنية سلميّة عابرة للطوائف والمناطق توحّد اللبنانيّين الأحرار، زعيماً للمسلمين قبل المسيحيين؟ أوليس الخطأ من طبيعة البشر؟
واسمح بالذهاب في الصراحة إلى منتهاها. في ما مضى كنت تفنّد كل نقطة ينال فيها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، في خطاباته، من لبنان، كما نحبّه ونعرفه. تغيّر الحال لاحقاً وليس لأيٍّ كان من خارج حزبك أن يُملي أو ينتقد. فكلّ حزب وكل إنسان حرّ في اعتماد الأسلوب السياسيّ الذي يراه مناسباً له ولظروفه وللبلاد. وخلافاً لتخمينات بعضهم لا أفكّر لحظة في تخطيطك للوصول إلى الرئاسة بعد انتهاء هذا العهد من خلال تجنّب الصدام، وإن كلامياً، مع “الحزب”. أقول إنك أذكى ممّا يعتقدون في حساب موازين القوى. وتعرف أنّها إذا كانت مكتوبة لك فسوف تؤول إليكَ. وسأفرح على الرغم من كل شيء مع الفرحين.
وما كنتُ لأقدم على توجيه هذه الرسالة إليك لو لم أكن مَن وَضَعَ تحديداً لـ”القوّاتي” خلال مرحلة اعتقالك الطويل: إنّه الإنسان الذي يشعر على الدوام بأنّ نصفه في السجن.
بكل احترام.
*المقال يعبّر عن رأي الكاتب