بعد إبرام اتّفاق وقف إطلاق النار بين حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وحكومة بنيامين نتنياهو، الذي نصّ في بنده الأخير على تسوية نقاط الخلاف بشأن الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة، لا بدّ من إثارة مسألة ترسيم الحدود اللبنانية السورية بدءاً من الجنوب من أجل استعادة لبنانية مزارع شبعا. إضافة إلى أنّه لا يمكن تحديد حدود لبنان الجنوبية الصحيحة من دون انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من مزارع شبعا وتثبيت لبنانيّتها. إنّ تغيير النظام في سوريا يتيح للبنان والأمم المتحدة فرصة فتح هذا الملفّ الخلافيّ، الذي كان يشكّل محظوراً في العلاقات اللبنانية السورية.
مجلس الأمن عبر القرار 1680 (2006) المعتمد بتاريخ 17 أيار 2006، يشجّع بشدّة في فقرته الرابعة الحكومة السورية على الاستجابة بشكل إيجابي للطلب الذي قدّمته حكومة لبنان لتحديد حدودهما المشتركة، وخاصة في المناطق التي تعتبر فيها الحدود غير مؤكّدة أو محلّ نزاع.
عاد مجلس الأمن بموجب القرار 1701 (2006) المعتمد في 11 آب 2006 ليؤكّد في فقرته التنفيذية الخامسة تأييده الشديد لترسيم حدود لبنان المعترف بها دولياً، حسب الوارد في اتّفاق الهدنة العامّة بين إسرائيل ولبنان المؤرّخ في 23 آذار 1949. وطالب بموجب الفقرة التنفيذية العاشرة الأمين العامّ أن يَضَع، من خلال الاتّصال بالعناصر الفاعلة الرئيسة الدولية والأطراف المعنيّة، مقترحات لتنفيذ الأحكام ذات الصّلة من اتّفاق الطائف والقرارين 1559 و1680، بما في ذلك ترسيم الحدود الدولية للبنان، ومعالجة مسألة منطقة مزارع شبعا.
الحدود البرّيّة لم يتمّ ترسيمها بين الدولتين، وهذا يشكّل إشكالية حقيقية لناحية بسط سلطة الدولة اللبنانية على كلّ أراضيها
في تقاريره بشأن تنفيذ القرار 1701 (2006)، يشدّد الأمين العامّ للأمم المتحدة على أنّ جيران لبنان يتوجّب عليهم تنفيذ الفقرتين 14 و15 من هذا القرار، مشيراً إلى أنّه تقع على عاتق الجمهورية العربية السورية ودول الإقليم الأخرى وجمهورية إيران الإسلامية مسؤولية خاصة في ما يتعلّق بكفالة الاحترام الكامل لأحكام القرار. وتتحمّل الجمهورية العربية السورية بوجه خاصّ المسؤولية المشتركة عن ضبط حدودها مع لبنان وتنفيذ الفقرة 15 من القرار 1701، بما في ذلك الحؤول دون وقوع أيّ خرق للحظر المفروض على الأسلحة.
واقع الحدود اللّبنانيّة السّوريّة
تمتدّ الحدود اللبنانية السورية إلى حوالي 375 كلم من الشرق حتّى الشمال. تنبع شرعية هذه الحدود من قرار الجنرال غورو رقم 318 في 31 آب 1920 الذي أعلن بموجبه إنشاء دولة لبنان الكبير والذي ضمّ بموجبه بيروت والبقاع ومدن طرابلس وصيدا وصور وملحقاتها إلى متصرفية جبل لبنان.
تمّ تعريف حدوده الشرقية والشماليّة على الشكل الآتي: “شمالاً: من مَصبّ النهر الكبير على خطّ يُرافق مجرى النهر إلى نقطة اجتماعه بوادي خالد الصابّ فيه على علوّ جسر القمر. شرقاً: خطّ القمّة الفاصل بين وادي خالد ووادي نهر العاصي (أُورونت) مارّاً بقرى مصرعة مربعانة ـ حيط أبيح ـ فيصان على علوّ قريتَي بريفا ومتربة. وهذا الخطّ يتابع حدود قضاء بعلبك الشمالية من الجهة الشمالية الشرقية والجهة الجنوبية الشرقية ثمّ حدود أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الشرقية”.
أتى الدستور اللبناني الصادر في عام 1926 في مادّته الأولى، على تحديد حدود لبنان الشرقية والشمالية تثبيتاً للحدود التي وضعها القرار الفرنسي 318.
تقاس المسافة المتنازع عليها بما يقارب خمسين كلم، في حين أنّ المسافة الباقية (حوالي 325 كلم)
خرائط طوبوغرافيّة دون حدود ثابتة
في الواقع، إنّ هذه الحدود البرّيّة لم يتمّ ترسيمها بين الدولتين، وهذا يشكّل إشكالية حقيقية لناحية بسط سلطة الدولة اللبنانية على كلّ أراضيها، ومعرفة المناطق التي تخضع للسلطة اللبنانيّة. فالدولة السورية، خلال الاجتماعات مع الجانب اللبناني، تقوم بعرض خرائط طوبوغرافيّة من دون أن تتضمّن بأغلبها أيّ حدودٍ ثابتة مع لبنان، فيما يشار إلى القسم الباقي من الحدود اللبنانية السورية بحدودٍ مؤقّتة (أي بانتظار الترسيم النهائي).
تعتمد سوريا نوعين من الحدود: الحدود الإدارية للمحافظات والحدود السياسية للدولة، بحيث تتطابق الحدود الإدارية مع الحدود اللبنانية السورية في أجزاء من الحدود، فيما تتداخل في أجزاء أخرى من الحدود، وهو ما يؤدّي إلى حدوث بعض الإشكالات الحدودية بين المزارعين اللبنانيين والسوريين.
في جرود عرسال وبعلبك، مثلاً، مساحة لا يُستهان بها من الأراضي الزراعية داخل الأراضي اللبنانية مملوكة من سوريين وفي الوقت نفسه ضمن الحدود الإدارية لمنطقة فليطة السورية. فهذه الأراضي تعتبر بالنسبة الى الدولة اللبنانية أراضي لبنانية، فيما تعتبرها الدولة السورية ضمن حدودها الإدارية، وبالتالي هي أراضٍ سوريّة على الرغم من تسليمها بأمر الحدود السياسية بين لبنان وسوريا.
يؤدّي هذا إلى حدوث إشكاليّات حدودية كبيرة بين البلدين لا بدّ من حلّها بالسرعة الممكنة على الرغم من التأخّر في معالجة هذه المشاكل. هناك عدد من المواقع يلفّ الغموض وضعها ولم يجرِ ترسيم الحدود بوضوح وبيانها فعليّاً على الأرض، إضافةً إلى التباين بين الخرائط اللبنانية والخرائط السورية الرسمية.
مناطق تثير إشكاليّات
من المناطق التي تثير إشكاليّات حقيقية بالنسبة لترسيم الحدود، منطقة دير العشائر وجرود عرسال ومنطقة معربون، إضافة إلى منطقة الهرمل على طول حدود منطقة القصير السوريّة لمسافة تتعدّى ثمانية كيلومترات. وحسب محضر اجتماع اللجنة العسكرية السورية اللبنانية المشتركة في 9 أيار 2005، تبيّن أنّ في الخرائط الطوبوغرافية لكلا البلدين تبايناً.
الحدود اللبنانيّة – السورية محدّدة طبيعياً في القسم الشمالي على النهر الكبير بحدود تمتدّ بطول خمسين كيلومتراً
تجدر الإشارة إلى أنّ المحادثات بين لبنان وسوريا بشأن ترسيم الحدود بين الدولتين، التي شُرع فيها في الأصل في عام 1964، وعُلّقت في عام 1975، قد استؤنفت في خريف عام 2005، من دون نتائج تذكر، لثلاثة أسباب رئيسة: تغيّب القضاة اللبنانيين عن اجتماعات التحديد والتحرير، حيث تمّ توقيع المحاضر وتثبيت الحدود الطوبوغرافية من قبل الجانب السوري أحاديّاً لعددٍ كبير من المناطق. والسبب الأهمّ هو موقف لبنان السياسي من النظام السوري على الرغم من استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. أمّا السبب الأبرز فهي الشروط السورية للترسيم وغياب النيّة الصادقة لإجراء الترسيم.
شروط سوريّة لتفعيل لجنة الحدود
في تشرين الثاني 2005 أبلغ رئيس الوزراء السوري محمد ناجي العطري نظيره اللبناني عن طريق الأمين العامّ للمجلس الأعلى السوري اللبناني بأنّ الجمهورية العربية السورية وافقت على إعادة تفعيل لجنة الحدود المشتركة، لكنّه وضع مجموعة من الشروط، أبرزها: إجراء ترسيم الحدود المشتركة على خمس مراحل، بدءاً بالحدود البحرية والحدود البرّية في الشمال، قبل الانتقال إلى منطقة دير العشائر/عرسال.
علاوة على ذلك، كانت ترفض دوماً الحكومة السورية اقتراح لبنان ترسيم الحدود اللبنانية بالتعاون مع الأمم المتحدة، مكرّرة موقفها بأنّ مسألة ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان هي مسألة ثنائية تتّصل بسيادة الدولتين ويجب أن تُحلّ بالاتّفاق بين الحكومتين السورية واللبنانية، متمسّكة بشرط بدء الترسيم انطلاقاً من الشمال إلى الجنوب، وهو ما يعني أنّ ترسيم حدود مزارع شبعا في جنوب الحدود الشرقية ليس بأولويّة ويترك للنهاية.
المحادثات بشأن ترسيم الحدود التي شُرع فيها في الأصل في عام 1964، وعُلّقت في عام 1975، قد استؤنفت في خريف عام 2005
17 اجتماعاً
على الرغم من أنّ مسؤولي مراقبة الحدود السوريين واللبنانيين عقدوا سبعة عشر اجتماعاً بين كانون الأول 2005 وأيار 2007، إلّا أنّ جداول أعمال هذه الاجتماعات لم تتناول مسألة تعيين الحدود، بل اقتصرت على المسائل المتّصلة بالتهريب والجمارك. إضافةً إلى ذلك، وعلى الرغم من أنّ بيان القمّة اللبنانية السورية التي عقدت في 13 آب 2008 قد تناول مسألة ترسيم الحدود واستئناف اللجنة المشتركة أعمال التحديد والترسيم، وأنّ رئيس الجمهورية اللبناني قد أصدر مرسوماً في 23 كانون الأول 2008 عيّن بموجبه أعضاء اللجنة المشتركة من الجانب اللبناني، لم يحصل أيّ تطوّر إيجابيّ، بل إنّ السلطات السورية شرحت للمنسّق الخاصّ للأمم المتحدة في 11 شباط 2009 أنّ الجمهورية العربية السورية لا تملك حالياً القدرات التقنية اللازمة لترسيم حدودها مع لبنان، ولم تعيّن أعضاءها في اللجنة.
اللافت أنّه في 29 آذار 2009، أبلغ الرئيس السوري السابق بشّار الأسد بأنّ حكومته ستشرع في أعمال ترسيم الحدود مع لبنان حال اختتام أعمالها على حدود سوريا مع الأردن. وبالفعل لعبت اللجنة المكلّفة ترسيم الحدود السورية الأردنية دوراً مهمّاً بسرعة قياسية، فتمّ الاتّفاق بين البلدين على مبادلة أراضٍ، ولم تعترض اللجنة المشتركة أيّ صعوبات تذكر.
في 27 أيار 2009، أبلغت الحكومة السورية المنسّق الخاصّ للأمم المتّحدة بأنّ الأعمال الفنّية المتعلّقة بالحدود الأردنية أُنجزت وبأنّ الاتّصالات قد أُجريت مع الحكومة اللبنانية بهدف عقد اجتماع للجنة ترسيم الحدود اللبنانية السورية، إلّا أنّ التصاريح والوعود ذهبت سدىً.
من المناطق التي تثير إشكاليّات حقيقية بالنسبة لترسيم الحدود، منطقة دير العشائر وجرود عرسال ومنطقة معربون، إضافة إلى منطقة الهرمل
50 كلم متنازع عليها
في المحصّلة، الحدود اللبنانيّة – السورية محدّدة طبيعياً في القسم الشمالي على النهر الكبير بحدود تمتدّ بطول خمسين كيلومتراً، وقسم منها محدّد بموجب محاضر قضائية موقّعة من قبل قضاة عقاريّين في البلدين كما هو الحال في منطقة معربون، وذلك على الرغم من اعتراض أهاليها على ذلك ومطالبتهم الدولة اللبنانية بإعادة النظر في الاتّفاقات العقارية، خصوصاً أنّهم يملكون عقارات في الجانب الآخر من الحدود.
تشمل هذه المحاضر القضائية الموقّعة (من قبل القضاة اللبنانيين – مراجعة المحاضر في الدوائر العقارية في محافظة البقاع) بين البلدين منطقة الهرمل قرب حوش السيّد علي حيث غالبية اللبنانيين يقطنون على جانبي الحدود اللبنانية السورية، ويستثمرون أراضي زراعية في الجانب السوري، ويعملون على تصريف منتجاتهم في الأراضي اللبنانية، إضافة إلى وجود لبنانيين يقطنون داخل الأراضي السورية في بلدات زيتا وحاويك.
إقرأ أيضاً: العلاقات اللّبنانيّة – السّوريّة… مشقّة التاريخ والجغرافيا
فعليّاً، تقاس المسافة المتنازع عليها بما يقارب خمسين كلم، في حين أنّ المسافة الباقية (حوالي 325 كلم) إمّا مرسّمة عبر الحدود الطبيعيّة أو جرى توقيع اتفاقات بشأنها، وتبقى هذه الحدود غير مرسّمة بسبب رفض سوريا الشروع في الترسيم.
*محامٍ دوليّ وأستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية.