لا ينفك لبنان يتحمّل مشقّة الجغرافيا. هي المشقّة لوجوده بين دولتين: إسرائيل التي لا يعترف بها، وسوريا التي لا تعترف به وطناً مستقلّاً، حتى عام 2008 تاريخ تبادل السفارات بين الدولتين. حتى التمثيل الدبلوماسي للبلدين ظلّ ينوء تحت وجود المجلس الأعلى اللبناني ـ السوري، واقتصر دور السفارتين على الحضور الشكليّ. أكثر من ذلك، فالإشكال الحدودي الذي نشب بين الدولتين خلال الأيام الماضية زاد الأمور تعقيداً وإلحاحاً على قراءة تاريخ العلاقات بين البلدين.
كانت العلاقات اللبنانية ـ السورية شائكة بسبب الانفصال الرسمي (عام 1950) من جهة، وبسبب التواصل بين البلدين، لأنّهما بقعة جغرافيّة واحدة. حتى إنّ كُثراً من الذين حكموا سوريا كانوا يرون لبنان محافظة سورية أو محافظة تابعة لريف دمشق.
حكم البعث وتحكّمه
منذ ما قبل حزب البعث العربي الاشتراكي كانت العلاقات شائكة. خلال حكم حزب البعث وتحكّمه بسوريا صارت العلاقات شائكة أكثر. الآن جاءت مُشجّعةً التصريحات التي صدرت عن الطبقة السياسية الجديدة نحو لبنان، إذ تدعو للعودة إلى المسار الطبيعي والمسار القانوني للعلاقات بين البلدين، أي علاقات من دولة إلى دولة. طبعاً هذا الشعار رفعته كلّ الطبقة الحاكمة في الشام منذ ما قبل الاستقلال حتى الساعة، إلّا أنّ أحداً لم يفِ به.
لطالما تميّزت سوريا على الدوام بنفوذها في لبنان. وكان هذا النفوذ يتأتّى إمّا عن واقع اقتصادي، بحكم أنّ سوريا هي المعبر البرّي الوحيد والنافذة العربية الوحيدة للبنان، وإمّا عائليّاً بسبب تداخل العائلات وعلاقات المُصاهرة والقربى بين الدولتين. السؤال الجدّي المطروح حالياً: هل ينجح السيّد أحمد الشرع في بناء علاقات سليمة؟ أم بعد تثبيت دعائم الطبقة السياسية الجديدة والمُستجدّة يمضي إلى ما سار عليه سابقوه؟
العلاقات اليوم شبه مقطوعة وعلى أحسن ما يكون في آن واحد معاً، ربّما لأنّها انعكاس لعلاقات اللبنانيين بعضهم ببعض
هذا هو السؤال، وهذا هو التحدّي. وكما يُطرح على سوريا يُطرح على اللبنانيين بحكم أنّهم يستقوون بعلاقاتهم مع حكّام سوريا. وهل يبقى الشرع على موقفه القائل بعلاقات سليمة من دولة إلى دولة بعد أن يستتبّ له الأمر، خاصةً أنّ لبنان كان تاريخياً ممرّاً ومقرّاً: ممرّ الغزاة والطامعين إلى سوريا، ومقرّاً لهم لإدارة التدخّل أو التخريب وهزّ الوضع الأمنيّ والسياسي.
واقعاً، لم تشهد الدولة اللبنانية علاقات طبيعيةً مع نظيرتها السورية منذ قيام الاثنتين مطلع القرن العشرين بالتخلّص من الانتداب الفرنسي عليهما بمساعدة عصبة الأمم، التي صارت لاحقاً هيئة الأمم المتحدة القائمة حاليّاً.
قرن ونيّف من الزمن شهد في فترات مختلفة انقطاع العلاقات بين البلدين، إلّا أنّ الفارق كان في دخول الجيش السوري لبنان ومكوثه فيه قرابة ثلاثة عقود من الزمن. ثمّ كان خروجه منه تحت ضغط دولي شديد بُعيد اغتيال الرئيس الأسبق لمجلس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. وهو الاغتيال الذي تراكم على غيره من القضايا الإشكاليّة، ليخلق “حساسيّةً” لبنانية تجاه سوريا برهنت عن وجودها في طريقة التعاطي القائمة مع النازحين واللاجئين السوريين في لبنان.
جوهر الخلافات
شهد القرن المنصرم إبرام اتفاقات عدّة بين البلدين، أبرزها “معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق” المبرمة عام 1991، في ظلّ الهيمنة السورية على لبنان برعاية وتكليف دوليَّين، واتفاق قضائي موقّع عام 1951.
يؤيّد اللبنانيون بمختلف طوائفهم ومشاربهم إقامة علاقات مع سوريا، لكن لا إجماع لبنانيّاً على شكل هذه العلاقات وحدودها وطبيعتها:
ـ بينما تذهب شريحة واسعة من اللبنانيين إلى تأييد إقامة علاقات على مختلف الصعد، ولا تمانع التدخّل السوري في الشؤون اللبنانية، تنحو شريحة لبنانية مقابلة نحو تقنين هذه العلاقات، وجعلها رسميةً وفي حدود معيّنة تحول دون تدخّل الأخيرة في الشؤون اللبنانية، بعد ترسيم الحدود بين البلدين غير المرسّمة حتى اللحظة. وهي حدود لا تتوقّف عليها العلاقات بين البلدين، بل علاقة لبنان بمحيطه كلّه، خاصةً العدوّ الإسرائيلي.
في لبنان، سوريا متّهمة باغتيال شخصيّات سياسية بارزة من كلّ الطوائف والمشارب
ـ الخلاف القائم بين لبنان وإسرائيل، خاصةً منذ عام 2000، تاريخ انسحاب القوّات الإسرائيلية من جنوب لبنان، هو خلاف في جزء منه مبعثه عدم ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا وسؤاله الدائم: هل مزارع شبعا ومحيطها التي لم تنسحب منها إسرائيل لبنانية أم سوريّة؟
إلى ذلك، لسوريا بنظامها البعثي السابق الذي أمسك أعنّة السلطة مدّة نصف قرن ونيّف تقريباً، تاريخ طويل في لبنان. فنظام الأسد الأب ثمّ الابن حالف كلّ الأحزاب والطوائف والقوى والشخصيّات اللبنانية وقاتلها في الفترة عينها. بينه وبين مختلف الأفرقاء تاريخ طويل من الصداقة والتحالف والدعم والقمع والدم.
في لبنان، سوريا متّهمة باغتيال شخصيّات سياسية بارزة من كلّ الطوائف والمشارب، من الزعيم الدرزي اليساريّ كمال جنبلاط، فالمفتي الشيخ حسن خالد، ثمّ رئيسَي الجمهورية بشير الجميّل ورينيه معوّض، وصولاً إلى الرئيس رفيق الحريري وليس انتهاءً به، واللائحة تطول.
في ظلّ وجود اتّهامات بالاغتيال والإلغاء والتصفية، في كلّ الطوائف، تحتاج العلاقات اللبنانية – السورية إلى جهد مضاعف حتى تصفو من الشوائب ومن ارتكابات النظام السوري السابق. فلدى كلّ مكوّن من مكوّنات لبنان رمز أراقت دمه “سوريا الأسد” والدم يستسقي الدم، ولا يستسقي المحبّة والوئام.
مشتركات التّاريخ بين البلدين
ما سبق كلّه حدث ويحدث في ظلّ وجود علاقات وصلات وطيدة بين البلدين والشعبين، من الحدود الجغرافيّة المشتركة والتاريخ القديم والوسيط والحديث المشترك، واللغة الواحدة وحتى العائلات. ثمّة تداخل كبير عائليّاً وطائفياً ومذهبياً وعرقيّاً بين الشعبين. حتى إنّ هناك أحزاباً مشتركةً مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي الاشتراكي.
يضاف إلى ذلك أنّ الجمارك بقيت واحدةً في البلدين منذ قيامهما حتى عام 1950، تاريخ حصول الانفصال الجمركي بينهما. وكذلك العملة. كانت الليرة لبنانيةً وسوريةً في آن واحد وفي البلدين، حتى عام 1937. وفي عام 1948 وقع الانفصال النقدي والمصرفيّ بينهما.
لبنان كان تاريخياً ممرّاً ومقرّاً: ممرّ الغزاة والطامعين إلى سوريا، ومقرّاً لهم لإدارة التدخّل أو التخريب وهزّ الوضع الأمنيّ والسياسي
على الرغم ممّا سبق، لم يتبادل البلدان التمثيل الدبلوماسي إلا عام 2008، حين انطلقت رسمياً العلاقات الدبلوماسية بينهما. قبل هذا التاريخ كانت العلاقات بين الدولتين تمرّ عبر كلّ الأقنية إلّا القناة الدبلوماسية الرسمية كما هي الحال في العلاقات بين مختلف الدول. المفارقة أنّ الأقنية القديمة كانت قائمة وفاعلة حتّى فرّ الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو.
علاقات يشوبها الكدر
تأخُّر نشوء علاقات دبلوماسية بين البلدين يعزوه بعض اللبنانيين إلى عدم اعتراف سوريا باستقلال لبنان ومعاملته وكأنّه محافظة سورية أو جزء من ريف دمشق. وقد تضمّن الدستور اللبناني عام 1943 عبارةً تنصّ على ألّا يكون لبنان ممرّاً ولا مقرّاً. والمقصود منها ألّا يكون مقرّاً للقوّات التي تنوي غزو سوريا، وألّا يكون ممرّاً للغزاة إليها. ربّما ما سبق يكشف عمق المأزق الذي ترزح تحته العلاقات بين البلدين، وتاريخيّته.
منذ ذلك الحين، والعلاقات اللبنانية السورية يشوبها الكدر، وقد وصلت الأمور ببعض اللبنانيين (“الحزب” في مقدَّمهم) إلى أن يقاتلوا في سوريا بمختلف محافظاتها دفاعاً عن نظامها السابق، حليفهم. وللمفارقة بدأت علاقته بـ”الحزب” بمجزرة ثكنة فتح الله الشهيرة التي سقط فيها أكثر من عشرين شابّاً من “الحزب” على يد القوّات السورية. كما وصلت بلبنانيين آخرين إلى رفع السلاح في وجهها وقتالها، وأبرزهم الرئيس الأسبق بشير الجميّل في زحلة وفي غيرها، والرئيس الأسبق ميشال عون الذي شنّ حرباً سمّاها “حرب التحرير” لتحرير لبنان من الجيش السوري أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات. المفارقة أنّ عون وصل إلى رئاسة الجمهورية لأنّه صار حليفاً للنظام السوري السابق.
إقرأ أيضاً: سوريا ولبنان: الإقامة بين الأقليّات والأكثريّات
العلاقات بين لبنان وسوريا اليوم شبه مقطوعة وعلى أحسن ما يكون في آن واحد معاً، ربّما لأنّها انعكاس لعلاقات اللبنانيين بعضهم ببعض. حلّ مشكلة العلاقات اللبنانية ـ السورية يبدأ من لبنان وفيه. فإذا ما انفضّ الخلاف بين اللبنانيين سهُلت المهمّة.
لمتابعة الكاتب على X: