في الحِقَب الأساسية من تاريخهم الحديث، يتذكّر الكويتيون بشكل أساسي عام 1962 عند وضع الدستور، وعام 1991 الذي شهد التحرير بعد الغزو العراقي، وعام 2006 الذي تولّى فيه الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الحُكم واستمرّ حتى وفاته في 2020.
إلى التواريخ الثلاثة، سيُضاف تاريخ رابع هو 20 كانون الأوّل 2023 عندما تولّى الأمير الشيخ مشعل الأحمد مقاليد الحكم، بعد وفاة الأمير الراحل الشيخ نوّاف الأحمد، على اعتبار أنّ العام الأوّل من عهده شهد تحوّلاً شاملاً نقَلَ الكويت من حالة إلى أخرى، فأعيد الاعتبار لهيبة الدولة، وتمّ إنهاء حالة الاضطراب السياسي، وإطلاق عجلة المشاريع التنموية، مع إغلاق الكثير من مزاريب الهدر التي أرهقت الميزانية العامّة.
لا نقاش في أنّ العنوان الأبرز للعام الأوّل من عهد الشيخ مشعل هو انتهاء حالة الاضطراب السياسي، مع حلّ مجلس الأمّة في 10 أيار 2024 وتعليق بعض موادّ الدستور. وهو ما أدّى إلى استقرار تامّ وانتهاء مرحلة الشحن والتراشق وتبادل الاتّهامات وصراع الشيوخ وخلافات السلطتين (التشريعية والتنفيذية).
عندما ألقى أوّل خطاب بعد أدائه اليمين الدستورية بمجلس الأمّة في 20 كانون الأوّل 2023، وجّه الأمير انتقادات لاذعة للحكومة، لم يألَفْها المشهد السياسي في السابق بهذه العلنية والوضوح، منتقداً تعاونها مع البرلمان “للإضرار بمصالح البلاد والعباد”، من خلال “العبث المبرمج”، وإبرام “صفقة تبادل مصالح ومنافع (…) على حساب الوطن والمواطنين”.
لم يكتفِ الأمير بذلك، بل ذهب إلى حدّ القول صراحة إنّه لم يكن مقتنعاً ببعض قرارات وتعليمات سلفه الأمير الراحل، لكنّه لم يخالفها والتزم بها.
13 دقيقة و20 دقيقة
13 دقيقة، مُدّة الخطاب الأوّل، كانت كفيلة برسم علامات الذهول على وجوه السياسيين، وطرح عشرات الأسئلة في أذهانهم.
العام الأوّل من عهده شهد تحوّلاً شاملاً نقَلَ الكويت من حالة إلى أخرى، فأعيد الاعتبار لهيبة الدولة
استقالت الحكومة بعد أقلّ من ساعتين من انتهاء الخطاب، واعتقد النوّاب أنّ الأمير الجديد ينتقد أحداثاً مُحدّدة أو لديه تحفّظات مُعيّنة على بعض الملفّات، وأنّ الأمر يمكن استيعابه، ولم يخطر في بالهم أنّ قواعد اللعبة تغيّرت، وأنّ ما كان يصحّ في السابق لن يصحّ بعد الآن.
بناء على هذا التقويم، واصل كثيرٌ منهم “هوايته” في رفع الصوت والإصبع والتلويح والتهديد، حتى جاء “الإنذار الأوّل” في 15 شباط، اليوم الذي فيه صدر قرار بحلّ مجلس الأمّة بسبب ما بدر “من تجاوز للثوابت الدستورية” من بعض النوّاب.
الموعد التالي كان 4 نيسان، اليوم الذي جرت فيه الانتخابات خلال شهر رمضان، وكانت الفرصة ما قبل الأخيرة.
أيضاً في ذلك التاريخ، لم يُدرك النوّاب مدى وعمق التحوّل الحاصل في الحُكم، فخاضوا معاركهم بالوسائل القديمة وبالعبارات نفسها، بل وصل الأمر إلى حدّ تدخّل بعضهم باختيارات الأمير لوليّ العهد ورئيس الحكومة وأعضائها.
تمثّلت الفرصة الأخيرة في تأجيل انعقاد مجلس الأمّة الجديد إلى 14 أيار 2024، بموجب مرسوم استناداً إلى المادّة 106 من الدستور.
لكنّ هذه الفترة لم تختلف عن سابقاتها، إذ بقي غالبية النواب في المربّع نفسه، حتى جاء تاريخ 10 أيار، قبل 4 أيام من الموعد المفترض لأوّل جلسة نيابية، عندما تسمّر الكويتيون أمام الشاشات مساء ليتابعوا كلمة للأمير أُعلن عنها فجأة واستغرقت 20 دقيقة. قال فيها كلاماً غير مسبوق في تاريخ الكويت الحديث، إذ تحدّث عن مسوّغات وأسباب “القرار الصعب” الذي اضطرّ إلى اتّخاذه “قبل فوات الأوان”، معلناً حلّ مجلس الأمّة قبل أن ينعقد، وتعليق بعض موادّ الدستور المرتبطة بالسلطة التشريعية لأربع سنوات، بهدف “وقف الانحدار والحيلولة دون أن نصل إلى مرحلة الانهيار”.
13 دقيقة، مُدّة الخطاب الأوّل، كانت كفيلة برسم علامات الذهول على وجوه السياسيين، وطرح عشرات الأسئلة في أذهانهم
الهويّة والهيبة
في الخطاب نفسه الذي جزَمَ فيه بأنّه لن يسمح “أن تُستغلّ الديمقراطية لتحطيم الدولة”، حدّد الشيخ مشعل معالم ما هو آتٍ، من خلال 4 عناوين كبرى:
1 – عدم التفريط بمصادر الثروة بهدر المال العامّ.
2 – محاربة الفساد “الذي وصل إلى أغلب مرافق الدولة”.
3 – فرض هيبة الدولة وتطبيق القانون على الجميع “أيّاً كان موقعه أو صفته”.
4 – تعزيز قوانين الأمن الاجتماعي من خلال الحفاظ على “الهويّة الوطنية” (محاسبة مزوّري الجنسيّات وسحبها منهم).
مع انتهاء حقبة مجلس الأمّة و”سيمفونيّات” التراشق، انصرَفَت الحكومة إلى العمل، فاستعادَت الدولة هيبَتها وبات القرار الحكومي ذا وقع ثقيل، لا نقاش فيه ولا تراجع عنه.
مثالٌ على ذلك، “البصمة البيومتريّة” التي أُعطي المواطنون مهلة تزيد على عام ونصف عام لإجرائها، لكن قبل انتهاء المهلة بأسابيع كان لا يزال عشرات آلاف منهم لم يجروها، على الرغم من العواقب المتمثّلة بوقف كلّ معاملاتهم الرسمية، فقام الأمير شخصياً (ومعه وليّ العهد ورئيس الوزراء) بإجرائها بشكل علنيّ وموثّق بالصور.
حملت تلك الخطوة رسالة بأنّ لا تهاون في تطبيق القوانين، وأنّ على جميع المواطنين اللحاق بركب الانتظام.
في ملفّ “الهويّة الوطنية” الذي اعتلى الصدارة في سلّم الأولويات، توالى، منذ نهاية شهر آب الماضي، سحب الجنسيّات الكويتية من المزوّرين الذين حصلوا عليها بطرق ملتوية في سنوات سابقة (راجع مقال “أساس” المنشور بتاريخ 8/11/2024 بعنوان “الكويت: تأكيد الهويّة الوطنيّة لأهلها فقط”). شمل السحب أيضاً الآلاف من زوجات الكويتيين اللواتي تجنّسن خلال الفترة من 1987 إلى 2024، وينتمين إلى حوالي 66 دولة.
لم يكن انضمام النساء بسبب التزوير في غالبية الأحوال، لكن بسبب خلل في الأداة القانونية التي حصَلْنَ بموجبها على الجنسيّة. فالقانون يفرض منحها بمرسوم (يصدره الأمير) فيما كانت تُمنح خلال تلك الفترة بموجب قرار وزاري (يصدره وزير الداخلية)، في إطار “شراء الولاءات” و”إرضاء النوّاب”.
لم يكن انضمام النساء بسبب التزوير في غالبية الأحوال، لكن بسبب خلل في الأداة القانونية التي حصَلْنَ بموجبها على الجنسيّة
بالمحصّلة، وصل عدد من سُحبت جنسيّاتهم خلال حوالي 4 أشهر إلى أكثر من 10 آلاف، ويبدو أنّ الرقم مرشّح للارتفاع كثيراً في 2025.
الانضباط والتّنمية
مع استقرار الوضع السياسي، أدارت الحكومة مُحرّكات المشاريع التنموية الكبرى، مثل ميناء مبارك الكبير الحدودي مع العراق، والمدن الإسكانيّة الجديدة، والبنى التحتية، ومحطّات الكهرباء والطاقة المتجدّدة، وعزّزت التعاون مع الصين من خلال المتابعة الحثيثة لتنفيذ الاتفاقيّات ومذكّرات التفاهم التي تمّ إبرامها بين البلدين في أيلول 2023، عندما زار الشيخ مشعل الصين، وكان حينها وليّاً للعهد.
ترافَقَ ذلك مع إجراءات حازمة لضبط الإنفاق، من خلال إعادة النظر بـ”العطايا” المُبالغ بها لقسم كبير من الموظّفين الحكوميين، مع ضبط دواماتهم وإلزامهم بـ3 بصمات في اليوم، فيما يبدأ الجهاز الحكومي اعتباراً من 5 كانون الثاني المقبل بالدوام خلال فترتين صباحية ومسائية، للمرّة الأولى.
في واحد من القرارات التي تركت أثرها على مجمل الحركة الاقتصادية في الكويت، ألغت الحكومة عقداً مع شركة خاصّة لتقديم خدمات التأمين الصحّي للمتقاعدين تصل قيمته إلى حوالي 355 مليون دينار كويتي، أي ما يعادل 1.1 مليار دولار. وتمّت إحالة المتقاعدين إلى المرافق الحكومية التي شهدت توسّعات كبيرة، وهي أصلاً تضاهي أرقى المستشفيات الخاصّة.
في واحد من القرارات التي تركت أثرها على مجمل الحركة الاقتصادية، ألغت الحكومة عقداً مع شركة خاصّة لتقديم خدمات التأمين الصحّي للمتقاعدين
السبب في اتّخاذ القرار هو اكتشاف فسادٍ مستشرٍ بالتواطؤ بين بعض المتقاعدين وبعض المستشفيات (مثل بيع بطاقة التأمين التي تصل تغطيتها إلى حوالي 50 ألف دولار بربع المبلغ، فيما يحصل الشاري، وهو مرفق صحّي خاصّ، على كامل المبلغ من دون تقديم أيّ خدمات استشفاء).
مثل هذا القرار الحكومي كان يُعدّ مستحيلاً في زمن وجود مجلس الأمّة، بل إنّ النواب قاموا العام الماضي بإضافة شرائح جديدة على التأمين ليشمل ربّات البيوت، على الرغم من أنّهنّ لسن موظّفات سابقات.
إقرأ أيضاً: سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون
يختصر هذا القرار مجمل التوجّه الحكومي الجديد الذي يتمثّل بضبط الإنفاق من دون المساس بحقوق المواطنين، والانتقال إلى قطاع حكومي رشيق قادر على الإنتاج وبعيد عن الترهّل والتضخّم، وإزالة كلّ العقبات البيروقراطية وغير البيروقراطية من أمام المشاريع الكبرى، بما يسمح لقطار التنمية بالسير بالسرعة المطلوبة للإنجاز.
لمتابعة الكاتب على X: