بين اتفاق مدريد 1 واليوم، 33 عاماً. “أكل” الصراع العربي الإسرائيلي فلسطين في هذه السنوات. لا دولة ولا حلّ الدولتين، بل حروب مستمرّة. بدأت من غزّة هذه المرّة وقد تصل إلى الضفة الغربية. فهل نحن على عتبة “مدريد2” لإنهاء هذا الصراع؟
بين ما جرى في تشرين الأول 1991، وما يجري الحديث عنه في شباط 2024، ولدت وماتت أكبر عملية سلام شهدها الصراع العربي الإسرائيلي. وكانت الانطلاقة في مدريد برعاية مشتركة من أميركا والاتحاد السوفيتي. وبمشاركة ودعم العرب جميعاً. ولكي يكتمل الحضور الدولي شارك الأمين العامّ للأمم المتّحدة.
اتّخذ المؤتمر، الذي استغرق ثلاثة أيام، منحى المناظرات الخطابية بين الوفود، فتعطّل المسار السوري اللبناني. واستأنف المسار الفلسطيني الإسرائيلي عمله في واشنطن.
كان الغائب الأكبر عن مدريد وواشنطن ياسر عرفات، وأيّ شخصية ذات صلة رسمية بمنظّمة التحرير. وذلك استجابة للفيتو الإسرائيلي. وقد جرى التحايل عليه أميركياً بالتغاضي عن صلة المنظّمة بالوفد الذي كان مشتركاً مع الأردن.
بين اتفاق مدريد 1 واليوم، 33 عاماً. الصراع العربي الإسرائيلي “أكل” فلسطين في هذه السنوات. لا دولة ولا حلّ الدولتين، بل حروب مستمرّة
وكان الأميركيون “عرّابو مدريد” من خلال وزير الخارجية جيمس بيكر. راحوا يجرون اتصالات شبه يومية مع ياسر عرفات دون إعلان. وأمّا الوفد الذي قاده حيدر عبد الشافي، فكان يعلن كلّ يوم أنّه يتلقّى التعليمات من منظمة التحرير. وذلك بوصفها القيادة العليا للشعب الفلسطيني.
محادثات سريّة بين الطرفين
كانت محادثات واشنطن تدور في حلقة مفرغة. إذ لا تقدّم في أيّ ملفّ يفترض أن يكون قيد التفاوض. ومثلما حدث في مدريد حدث في واشنطن. إذ كانت المفاوضات أقرب إلى المساجلات “القتالية”. وقد حرص كلّ وفد على أن يخاطب جمهوره بمطالب الحدّ الأقصى.
لكن تحت جنح كثيف من السرّية، جرت محادثات مباشرة بين رسميّي منظمة التحرير وممثّلين عن الحكومة الإسرائيلية. أسفرت عن جملة تفاهمات توّجها إعلان المبادئ، والاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير. وبناءً على ذلك أُسّست السلطة الفلسطينية مبدئياً على غزة وأريحا.
وتواصل التفاوض حول قضايا الوضع الدائم من جهة، ومستقبل الضفة والقطاع خلال وبعد الفترة الانتقالية. وأمّا مصير القدس فقد تمّ إدراجه ضمن قضايا الوضع الدائم المتمثّلة في المستوطنات والحدود واللاجئين والمياه.
هناك معوّق آخر مشتقّ من تجربة مدريد – أوسلو الفاشلة، وهو ربط أيّ تقدّم في أيّ مشروع سلميّ بما تقبل به إسرائيل أو لا تقبل. إذ لا بدّ أن يمرّ إجبارياً من ثقوب المصفاة الإسرائيلية الضيّقة
أوسلو: واغتيال رابين.. وإلغاء بيريز
كانت تفاهمات أوسلو التي تبنّاها الثنائي الإسرائيلي إسحاق رابين – شيمون بيريز، غير مجمع عليها في إسرائيل. بل إنّها مرّت بصوتٍ واحدٍ منحه العرب. وهو ما جعل مصير العملية كلّها رهين الوضع الداخلي الإسرائيلي الذي أجهز عليها أخيراً باغتيال رابين. وجرى بعدها إلغاء فاعلية بيريز. ثم تولّى الثنائي الصقريّ آرييل شارون وبنيامين نتنياهو السلطة والقرار في إسرائيل.
منذ ذلك الوقت دخلت أوسلو نفقاً لا يُرى حتى الآن مخرج منه. إضافة إلى أنّ الانهيار لم يتوقّف عند فشل صيغة سياسية يمكن معالجتها. بل أنجب حروباً فلسطينية إسرائيلية فاق عديد ضحاياها كلّ ما سبقها من حروب.
اتفاق سلام أميركي جديد؟
بينما تشتعل الآن حرب إبادة في غزة وحرب قمع وإخضاع وترهيب في الضفة، يعود الحديث مجدّداً عن مبادرة سلام أمريكية عربية. تبدأ بمعالجة حرب غزة، بوقف إطلاق النار والإفراج عن المحتجزين. وتمرّ بوضع جدول زمني لإقامة دولة فلسطينية. وذلك في سياق سلام طويل الأمد. مع وضع التطبيع السعودي مع إسرائيل على الطاولة.
لكن ما هو المشترك بين هذه المبادرة التي ما يزال الحديث عنها يتمّ بالتسريب وليس بالإعلان الرسمي، وبين ما حدث في مدريد قبل ثلث قرن؟
العالم الذي استفاق زمن مدريد على أهمّية حلّ القضية الفلسطينية كشرط لاستقرار الشرق الأوسط، وفشل في إيصال مشروع مدريد – أوسلو إلى غاياته، يعود مرّة أخرى بمحاولة جديدة. إذاً فنحن حيال مشترك في العنوان والمبدأ العامّ.
كان الغائب الأكبر عن مدريد وواشنطن ياسر عرفات، وأيّ شخصية ذات صلة رسمية بمنظّمة التحرير. وذلك استجابة للفيتو الإسرائيلي
العرب حاضرون هذه المرّة
أمّا المختلف، إلى جانب الظروف حيث الالتهاب الشامل في الشرق الأوسط، فهو حجم الدخول العربي على الخطّ. وأيضاً المشاركة المباشرة في الإعداد للعملية العتيدة. وذلك لم يكن متاحاً بالقدر عينه في مدريد ولا في أوسلو ولا في أيّ محاولة جرت لإنقاذهما من الانهيار.
غير أنّ المختلف، وهو إيجابي ومساعد، لا يلغي المعوّقات الجدّية. فهي تقف في وجه تطبيق هذه المبادرة الطموحة. وأوّلها وأهمّها المعوّق الإسرائيلي. هذا المعوّق لا يُختزل فقط في سياسة الحكومة اليمينيّة المتشدّدة الحاليّة، بل يتعدّاها إلى انعدام سياسة إسرائيلية موحّدة، ولو بالحدود الدنيا، تجاه التسوية مع الفلسطينيين. سواء كان يائير لابيد على رأس الحكومة أو بيني غانتس أو نتنياهو أو من يشبهه.
“لا ضمانات… ولا ضغوط على إسرائيل”
هناك معوّق آخر مشتقّ من تجربة مدريد – أوسلو الفاشلة، وهو ربط أيّ تقدّم في أيّ مشروع سلميّ بما تقبل به إسرائيل أو لا تقبل. إذ لا بدّ أن يمرّ إجبارياً من ثقوب المصفاة الإسرائيلية الضيّقة. وهذه هي أهمّ وأقوى المؤثّرات السلبية حتماً على السياسة الأميركية. تلك التي كان تكيّفها مع سياسة شارون – نتنياهو وخذلانها لمعسكر السلام والاعتدال، أحد أهمّ أسباب الفشل وانهيار المشروع من أساسه.
في أميركا قول يصل إلى مستوى المبدأ: “لا ضمانات عندنا ولا ضغوط على إسرائيل”.
العالم الذي استفاق زمن مدريد على أهمّية حلّ القضية الفلسطينية كشرط لاستقرار الشرق الأوسط، وفشل في إيصال مشروع مدريد – أوسلو إلى غاياته، يعود مرّة أخرى بمحاولة جديدة
هذه مجرد عيّنة من المعوّقات. وواحدة منها تكفي لتقويض أيّ جهد من أجل سلام تفاوضي ثنائي أو جمعيّ. ذلك أنّ الوضع الداخلي في إسرائيل لا بدّ أن ينتج قلقاً إن لم أقُل مخاوف مؤكّدة. خصوصاً بعد اندماجه بالوضع الداخلي في أميركا، بما ينطوي عليه من تأثير في الإدارات.
في أمر كهذا لا أُغفل المعوّق الفلسطيني المفترض أن يتمّ تذليله قبل أن تُطرح المبادرة بصورة فعليّة. ولدى الفلسطينيين البنية التحتية للتخلّص من هذا المعوّق. وأعني به الانقسام والشرذمة. وهي شرعية منظمة التحرير المعترف بها فلسطينياً وعربياً وإقليمياً وأميركياً، وعلى نحو ما إسرائيلياً.
90 % من الفلسطينيين متشائمون
إذ ينبغي على الفلسطينيين إيجاد الصيغة التي تقنع الآخرين بأنّهم موحّدون تجاه أيّ مشروع سياسي يعالج مصيرهم. وليس غير المنظمة ما يصلح لأن يكون الوعاء الصحّي والنموذجي لذلك.
في استطلاع رأي أبدى 90% من الفلسطينيين تشاؤماً تجاه نجاح المبادرة الجديدة. وذلك بفعل تأثير الحرب على غزة والضفة، وضعف الجهد الأميركي والدولي لإنهائها. وكذلك الجهد العربي. إضافة إلى سلسلة المبادرات الفاشلة السابقة.
إقرأ أيضاً: فلسطين: إيران دخلت بغياب العرب… فمتى العودة؟
تعديل النسب في هذا المجال لن يوفّره الإعلام مهما بلغت قوّة منابره. ولا الوعود مهما كان نفوذ مطلقيها. بل توفّره الحركة الجدّية والإجراءات المتّخذة لتهيئة الشروط الحتمية لولادة دولة فلسطينية. وهي تبدأ بالاعتراف الصريح بها وعدم معارضة عضويّتها الكاملة في الأمم المتحدة. وبعد ذلك، وحين يرى الفلسطينيون دولة حقيقية في نهاية أنفاق الفشل، سيعدّلون نسبة التأييد والترحيب إلى عكسها تماماً.