البريستول وأسلافه: بيروتنا تفقد عناوينها

مدة القراءة 3 د


لا نحيب على إقفال فندق البريستول، ما كان النحيب يوماً سمة من سمات بيروت وأهلها.

لن يفيدنا النحيب على إقفال فندق البريستول، كما لم يفِدنا من قبل عند إقفال مقهى “الويمبي”، وبعده “المودكا” ثم كافيه “دو باري”. لقد ملأنا الدنيا صراخاً عندما أقفل مسرح “البيكاديلي”، وتظاهرنا عندما أغلق “مسرح المدينة” أبوابه وعمد صاحب المبنى إلى بيعه.

ورغم كل هذا النحيب، لم نسترجع أياً من تلك الأمكنة ولم نتمكن من منعها من حزم حقائب الرحيل.

إقرأ أيضاً: “مكتبة السلام”: من الثقافة إلى الزراعة

تعالوا نفكر كيف نوقف نزف هذه العناوين. وكيف نوقف إفراغ ذاكرتنا من ملامح تلك الأمكنة. فالنحيب يُعطل التفكير. لم يقفل البريستول بالأمس، بل لاح إقفاله قبل سنين عديدة، عندما سمحنا لأنفسنا أن نستبدل عند صعودنا إلى سيارة الاجرة للدلالة إلى وجهتنا، شارع البيكاديلي بالإشارة إلى مطعم يقف على بابه عامل الشاورما وهو يحمل السكين.

أقفل “البريستول”، عندما أقفل “الويمبي”. عندما لم نعد نتذوق القهوة بالركوة، لأنّها تشبه بنطال قديم. لم نعد نفتخر أنّه على تلك الطاولة قتل أحد البيارتة صهيونياً حقيراً. وعندما ضحكنا ساخرين من حديث أحدنا عن وجوب الحفاظ على أبنيتنا التراثية قائلين: “معتّر، فاضي البال، مسكين”.

… الأمر خطير، بيروتنا تفقد عناوينها بعدما سكتنا عن فقدان الصغير منها قبل الكبير، فلنسأل أولادنا: هل يعرفون على شاطئ المنارة والروشة، “جورة الكلاب” و”المغارتين” و”بيت الوطاويط”؟ هل يعرف أحد منهم بيت فيروز أين موقعه. وأين اختبأ ديغول وأحبّ عشيقته. ومحطة الفيومي حيث كان يقف صائب سلام بين أنصاره في ثورة 58 خطيباً صانعاً التاريخ؟ هل يعلمون أين كان يسكن رياض الصلح على البسطا الفوقا حيث ولدت الوزيرة ليلى الصلح وشقيقتها وكل هذا الجيل؟

بيروت ليست بسطة بائع جوّال بل أسواق وتجّار يملأون السماء ضجيجاً ورزقاً وحبّاً للغني والفقير

أقفل البريستول والبيكاديلي والمودكا والويمبي عندما استحينا بذاكرتنا وبتنا نقول سهرنا في الـDT  وليس في شارع المعرض وباب إدريس أو أمام بركة العنتبلي وسندويش العانوتي. وعندما بتنا نتلقّى التعازي في الفنادق وليس في خلايا مساجد المؤمنين.

أوقفوا النحيب، تعالوا نطلق مقاومة بيروتية كي نحمي ذاكرتنا من المحتلّ الجديد من جدران الإسمنت الخالية من ذكرياتنا وأخبار اجدادنا. تعالوا معاً نحافظ على كل قديم جميل، تعالوا نستثمر في الذاكرة.

أُصدقكم القول إنّ كل ما في بيروت رائعٌ بديع. فالمدن التي تدفعون الأموال الطائلة لزيارتها هي المدن التي حافظت على أمكنتها وتوارثتها الأجيال، جيلاً بعد جيل، بيروت ليست بسطة بائع جوّال بل أسواق وتجّار يملأون السماء ضجيجاً ورزقاً وحبّاً للغني والفقير.

نعم، بيروت بحاجة إلى إطلاق مقاومة لحماية عناوينها. وإلاّ سيصعد أحدنا إلى سيارة الأجرة، عندما يبلغ من العمر عتياً، ويقول للسائق، خذني إلى هناك، إلى الحمرا. فيقول له السائق: “أيّ حمرا”، فنجيبه حيث “بربر”، محل السندويش.

 

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…