لا أنصح أحداً بقراءة هذا المقال

مدة القراءة 4 د


نعم، لا أنصح أحداً بقراءة هذا المقال. ومن لم يستمع إلى نصيحة العنوان، فما زال الوقت متاحاً كي يتوقف عن القراءة.

لم لا؟

طالما أنّ الكثير من تفاصيل حياتنا، بات من دون معنى، وليس منها شيء من الرجاء. فَلِم تبقى كلماتي أو كلمات غيري ذات معنى؟ وما نفع الكلمات من دون معنى؟ أو في توصيف أشياء هي أيضاً ليس لها معنى؟

فالكتابة ليست فعلاً عبثياً ولا ترفاً تمارسه لتقطيع الوقت، أو هواية لرصف الكلام. الكتابة فعل ثورة، وغير ذلك ثرثرة غير مفيدة، فالرواية التي لا تنقلك إلى عوالم مختلفة، لا قيمة لها. والقصيدة، التي لا تلوّن لك السماء لا جدوى منها. والمقال الذي لا يشعل شمعة وسط الظلمة هو أسوأ الكلام.

إقرأ أيضاً: أكتب إليكم من مستقبلكم… من إيطاليا

لقد أفقد الكورونا المعنى والجدوى لكثير من الأشياء. أفقد الثريّ متعة الثروة، وهو خائف أن تسلبه النقود الحاملة للفيروس لذّة الحياة، إن لمسها. فالمليارات والقصور وأساطيل السيارات واليخوت كلّها تقف عاجزة أمام فيروس حجمه لا يلامس الواحد من المليمترات.

لقد أفقدنا الكورونا معنى الأخوّة والصداقة. بتنا نتجنّب إخوتنا والأصدقاء ومجالستهم، متجنّبين أيّ شيء يجلب الداء. حتىّ تشعر أنّ ولدك أو زوجك إن ظهرت عليه عوارض عابرة تتمنّى أن تلقيه من الشرفة بعيداً عن الأنظار.

لقد سلب منّا الكورونا إنسانيتنا، ونحن نتسابق في المتاجر على الأغذية نشتريها قبل أن يشتريها غيرنا وكأننا نقول لغيرنا المهم أن نأكل نحن وما بالنا بغيرنا وبأولاده ونسائه وخلّانه وكلّ أحبابه.

كنا نقول إنّ العجوز، رجلاً كان أو امرأة، بركة البيت، فبات مع الكورونا هاجساً وحملاً ثقيلاً، لأنّه الأكثر عرضة للإصابة بالداء.

لقد أقفلت معابدنا أبوابها وكأنّها باتت تتجنّبنا، هي الأخرى، وقاية من الداء. وأبشع المشاهد عندما توفي والد صديق لي، فأعلن أنّه لن يقيم العزاء. فالصلاة على باب المقبرة، والدفن محصور حضوره على ثلاثة أشخاص. والميت عندما يدفن اليوم، لم يعد بحاجة للنواح كما تقول الأحاديث، مستنجداً بدافنيه سائلهم أن يبقوا معه لا يغادرونه. فاليوم سيذهب إلى القبر وحيداً دون أقارب ودون أصدقاء، والتعزية به على الهاتف أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وكفى الله المؤمنين شرّ القتال.

لقد سلب الكورونا أصحاب السلطة سلطتهم فلا ناس في الطرقات ولا الساحات وكأنّ فيروز جاءتهم مجدداً، بدور ناطورة المفاتيح، كي تسلّم الحاكم المفتاح وتُعلمه أنّ الشعب يئس وغادر وقرّر أن يترك له البلد وحيداً كي يرتاح.

كما سلب الكورونا من أجهزة السلطة رهبتها: فمن يستطيع إمساكنا نحن الشعب إن صرخنا بوجههم “أنّنا نحمل الداء”؟ كل استخباراتهم وفرق مكافحة الشغب ستهرول خوفاً، فحياتها أغلى من الحاكم ونظامه وأهم من قمع شغب الأحباب.

من المؤكد أنّنا قادرون على العودة لكتابة المقال، لكن شريطة أن نحوّل المأساة إلى فرصة لتجديد إنسانيتنا ونمسك بأيدي بعضنا

بعد كلّ هذا، أليس صحيحاً أن لا جدوى من قراءة هذا المقال وكل مقال؟ فما سيبقى منّا نحن من نعيش في زمن الكورونا، صورةً فقط لمجموعة من المصابين في أحد المستشفيات، يكتب تحتها: “مجموعة من الناس عندما ضربت الكورونا العالم ولم يجدوا لها دواء”.

هل هي النهاية؟

من المؤكد “لا”. ومن المؤكد أنّنا قادرون على العودة لكتابة المقال، لكن شريطة أن نحوّل المأساة إلى فرصة لتجديد إنسانيتنا ونمسك بأيدي بعضنا، ليس ملامسةً، بل تضامناً ووحدة وأخوّةً، لتجاوز المحنة والقضاء على الداء.

أن يمدّ الغني يده للفقير، وأن يسأل الجار عن جاره إذا تناول أولاده الطعام اليوم، وإن بات ليلته مرتاحاً. وأن نكتب لنصنع الغد والتغيير، وليس لندافع عن الظلم أو عن السلطة أو عن الزعيم.

 

مواضيع ذات صلة

بشّار: معي كلّ المسلمين ونصف المسيحيّين!

فيما الأنظار منصبّة على الجيش اللبناني والتوغّل الإسرائيلي. وفيما ننتظر ردود اللجنة الخماسية، أو زيارة آموس هوكستين، أو مقرّرات الحكومة اللبنانية. وفيما القلب على سوريا…

تحصين سعوديّ لسوريا ولبنان معاً: لا عودة للوراء؟

آليّة تطبيق القرار الدولي 1701 في لبنان تنتظر انتخاب رئيس للجمهورية في 9 كانون الثاني تتّفق هويّته مع بنود اتّفاق وقف النار. تستفيد إسرائيل من…

الشرع من “الإمارة الإسلاميّة” إلى “الدّولة الوسيطة”؟

عام 2014، أعلن الجولاني أنّه بصدد إقامة إمارة إسلامية في سوريا، وذلك بعد رفضه خلافة البغدادي، ومبايعته تنظيم “القاعدة”. وكانت غايته رفض قيام دولة علمانية…

كيف دبّروا فتنة “الميلاد” السّوريّ؟

ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضدّ “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق. قالت المتحدّثة…