“حماس” و”الحزب”: الحرب أم الاستسلام؟

مدة القراءة 8 د

الرهان على استئناف الحرب مجدّداً، أو المناورة حول إمكان تجدّد الحرب، هو ما بقي لـ”الحزب” في لبنان، ولحركة “حماس” في غزّة، وذلك باعتبار أن ليس أسوأ من الحرب المدمّرة سوى الاستسلام البارد لشروط وقف إطلاق النار، والتي لا تعني سوى النهاية المحتومة دون قتال. هو خيار بين موتين، لا بين موت وحياة، بنظر المقاومة.

 

إذا كانت المقاومة المسلّحة تنتصر عندما لا يتمكّن عدوّها، أي الجيش النظاميّ، من تحقيق كلّ أهدافه في الحرب، فذلك ينطبق فعلاً على “الحزب” وعلى “الحركة” من هذا المنظور، فلم يُقضَ على التنظيمين أثناء حرب السنتين، ولا هما استسلما.

بالمقابل، فشل “الحزب” في وقف حرب الإبادة على غزّة، واضطرّ إلى الموافقة على وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني من العام الماضي. فشلت “حماس” في فرض معظم شروطها لإطلاق الأسرى الإسرائيليّين، كما ظهر في اتّفاق 15 كانون الثاني الماضي، وأخيراً في الاتّفاق الذي رعاه الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، في 8 تشرين الأوّل الماضي، فيما كان أبرز أهداف “حماس” من “طوفان الأقصى” تصفير السجون الإسرائيليّة ورفع الحصار عن القطاع.

لم يتحقّق إلّا جزء يسير من الهدف الأوّل، وهو تحرير عدّة مئات من الأسرى الفلسطينيّين من ذوي الأحكام الثقيلة، علاوة على المئات من الذين اعتقلتهم القوّات الإسرائيليّة بعد “الطوفان”، فكانت النتيجة أن تضاعف عدد الأسرى، بدلاً من إخلاء السجون، وأصبح الحصار على القطاع مطبقاً وخانقاً على نحوٍ غير مسبوق.

الإعمار ممنوع قبل نزع السلاح في لبنان وفي غزّة. هذه ورقة ابتزاز إسرائيليّة خطيرة

انتصار المقاومات على الجيوش؟

هنا تختلف معادلة انتصار المقاومات على الجيوش، في لبنان كما في غزّة، لسببين أساسيَّين:

1- المقاومة هي التي بدأت الحرب الأخيرة على إسرائيل، لتحقيق أهداف معيّنة، بخلاف لو كانت إسرائيل هي التي بادرت إلى الحرب. لربّما كانت الحسابات حينئذ صحيحة، باعتبار أنّهما صمدا، وهي فشلت في القضاء عليهما، وهو أصلاً هدف صعب للغاية، ولا يتحقّق إلّا بالقضاء على الحاضنة الشعبيّة أو تبديل مزاجها العامّ.

يُضاف إلى ذلك أنّ اتّفاق وقف النار في كلتا الجبهتين يتولّى بشكل حثيث متابعة الأهداف الإسرائيليّة بما يتضمّنه من شروط غير مقبولة أصلاً في الحالات الاعتياديّة. تطبيقها من دون نقاش يعني الاستسلام من دون قتال، وعلى رأس تلك الشروط نزع السلاح وتفكيك البنية العسكريّة تماماً.

2- المقاومتان فشلتا في تحقيق أهدافهما من هذه الحرب، وتلقّيتا ضربات قويّة جدّاً، إضافة إلى التسبّب بأضرار فادحة جدّاً في البيئة الحاضنة لهما. وهو ما يجعل الميزان مختلّاً إلى حدّ كبير.

فقدت المقاومة هذه المرّة ميزة الردع المتكامل والمترابط بين مكوّنات المحور، وأصبحت هي نفسها مردوعة إن صحّ القول، وفي لبنان أكثر من غزّة، لاعتبارات خاصّة بكلّ جهة. أوقف “الحزب” حرب الإسناد، تخفيفاً للخسائر اللاحقة بالأهالي، أكثر من خوفه من الانهيار العسكريّ الداخليّ. أمّا “حماس” ومعها الفصائل فكانت تخوض حرباً وجوديّة، مع أنّ الشعب كلّه كان يتعرّض لخطر الإبادة الشاملة أو التهجير.

في لبنان، كان يمكن لـ”الحزب” أن ينتقل إلى العمل السرّيّ من دون كلام ولا إعلان

محاولة تسويق سرديّة النّصر

بغضّ النظر عن الأخطاء الاستراتيجيّة أو التكتيكيّة أو عدم تقدير الموقف بشكل جيّد، علاوة على عدم الدراية الشاملة باحتمالات الردّ الإسرائيليّ على “طوفان الأقصى” وعلى “إسناد غزّة”، والاكتفاء بالبناء على مجريات المعارك السابقة مع إسرائيل، التي كانت محدودة في الإطارين الزمانيّ والمكانيّ، ومقيّدة بالحسابات السياسيّة والقانونيّة بشكل عامّ، إلّا أنّ كلّاً من “الحزب” و”حماس” حاولا تسويق مقولة النصر، ليس لأنّهما انتصرا عسكريّاً على إسرائيل بالمعنى المباشر، بل فقط لأنّ إسرائيل لم تقضِ على المقاومة.

لم يكن الادّعاء مقنعاً هذه المرّة كما كان الحال في سنوات خلت، لا سيما أنّ مرحلة ما بعد وقف الأعمال العدائيّة في لبنان كانت أسوأ في وقائعها الميدانيّة من الحرب نفسها. لم تتوقّف الغارات ولا الاغتيالات، وتمدّدت القوّات الإسرائيليّة في الجنوب، ودمّرت القرى، وثبّتت مواقعها في المنطقة الحدوديّة العازلة بدلاً من الانسحاب لدى انتهاء مهلة الستّين يوماً من النقاط التي احتلّتها قبل ذلك.

الحرب

بدا أنّ إسرائيل تريد تطبيق القرار 1701 بنفسها، لا اعتماداً على القوّات الدوليّة “اليونيفيل” ولا على الجيش اللبناني. استعجلت حركة “حماس” إعلان النصر بعد اتّفاق كانون الثاني المنصرم، ذي المراحل الثلاث، التي لم يُطبَّق منها إلّا مرحلتها الأولى. استعرضت قوّاتها في القطاع وهي تسلّم الأسرى الإسرائيليّين، يوماً بعد آخر، وذهب وفد الحركة إلى طهران في 8 شباط الماضي لتسليم مفاتيح النصر إلى المرشد خامنئي. فما كان من إسرائيل إلّا أن أوقفت العمل بالاتّفاق في 1 آذار الماضي، واستأنفت الحرب في 18 الشهر نفسه، بأشدّ ما يكون، وجوّعت الغزّيّين، وحرمتهم من كلّ وسائل العيش. وسّعت من نطاق التدمير الممنهج في القطاع من الشمال إلى الجنوب، وانتقلت أخيراً إلى مدينة غزّة نفسها، لإجبار “حماس” على القبول بخطّة ترامب ذات البنود العشرين. وهذا ما كان.

لم يكتفِ “الحزب” أو “الحركة” بتجاهل ترتيبات اليوم التالي من وقف الحرب، بل إنّهما يتصدّيان لسرديّة الهزيمة

تنصّ الخطّة الأخيرة على وقف الحرب مقابل سلسلة من الخطوات، وعلى رأسها تسليم كلّ الأحياء والأموات من الأسرى الإسرائيليّين دفعة واحدة، والإفراج عن أسرى فلسطينيّين قدامى وجدد، ثمّ نزع سلاح “حماس” وتفكيك بنيتها العسكرية، وتشكيل قوّة عسكريّة دوليّة للإشراف على القطاع، وتأسيس حكم فلسطينيّ من غير “حماس” وغير مرتبط بالسلطة الفلسطينيّة في رام الله.

القبول بالجزء الأوّل من الاتّفاق

كما فعل “الحزب” في لبنان، الذي قبِل فقط بالجزء الأوّل من الاتّفاق، واعتبر أنّ نزع السلاح محصور فقط في جنوب الليطاني، وراح يطالب بالانسحاب الإسرائيليّ الكامل من الجنوب وإطلاق أسراه، والبدء بالإعمار، قبلت “حماس” بالمرحلة الأولى من خطّة ترامب. راحت تُطلق رؤيتها الخاصّة بالخطوات التالية: على القوات الدولية برأيها أن تكون قوّات فصل بينها وبين الجيش الإسرائيلي، بعد انسحاب إسرائيل من كامل القطاع، والسلاح لن يُسلّم إلّا لدولة فلسطينيّة تقوم يوماً ما. أمّا حكم غزّة فلا يكون إلّا بحسب الإجماع الفلسطينيّ.

لم يكتفِ “الحزب” أو “الحركة” بتجاهل ترتيبات اليوم التالي من وقف الحرب، بل إنّهما يتصدّيان لسرديّة الهزيمة، أو عدم التمكّن من تحقيق الأهداف، بتحدّي إسرائيل والجهات الراعية للاتّفاق.

في لبنان، كان يمكن لـ”الحزب” أن ينتقل إلى العمل السرّيّ من دون كلام ولا إعلان، لكنّ الشيخ نعيم قاسم كان حريصاً كما كلّ قيادات “الحزب” على تأكيد تعافي الجسم العسكريّ، واستعداده للقتال مرّة أخرى، إن اقتضى الأمر ذلك.

أمّا حركة “حماس” فكانت أسرع إلى تدارك الموقف قبل أن يتدحرج تطبيق الاتّفاق الذي يعني نهايتها، فأعدمت المتّهمين بالعمالة لإسرائيل علناً في الساحات العامّة، بدلاً من اعتقالهم ومحاكمتهم ومعاقبتهم دون استعراض قوّة. تبع ذلك وقوع مجابهات محدودة مع القوّات الإسرائيليّة في جنوب القطاع، وهو ما دفع إسرائيل إلى استئناف القتل، العشوائي منه والهادف. استدعى هذا الأمر انتقاد رئيس الوزراء القطريّ الشيخ محمّد بن عبدالرحمن آل ثاني للانتهاكات الحمساويّة والإسرائيليّة على حدّ سواء، مؤكّداً ضرورة نزع سلاح الحركة.

تنصّ الخطّة الأخيرة على وقف الحرب مقابل سلسلة من الخطوات، وعلى رأسها تسليم كلّ الأحياء والأموات من الأسرى الإسرائيليّين

الحرب أم الاستسلام؟

هل يريد “الحزب” كما “حماس” الدخول في نزال آخر مع إسرائيل بدلاً من الاستسلام البارد لشروط إسرائيل؟

قد يكونان أمام خيار صعب. الإعمار ممنوع قبل نزع السلاح في لبنان وفي غزّة. هذه ورقة ابتزاز إسرائيليّة خطيرة. كلّما تأخّر الإعمار، ارتفعت أصوات الاعتراض. يتفاقم الوضع مع عدم الردّ على الانتهاكات الإسرائيليّة، لعدم الرغبة في التورّط، أو عدم القدرة على الردّ الفعّال، بل إنّ أيّ محاولة للردّ ستُقابل بتدمير إسرائيليّ أكبر بكثير.

إقرأ أيضاً: نهاية حرب العصابات: ما البديل؟

لكن هل تكون الحرب هي المخرج، وفي لبنان خاصّة، باعتبار أنّ الوضع الإنسانيّ في القطاع ميؤوس منه؟ هي لعبة خطِرة غير مضمونة النتائج، وعلى النسق نفسه لعمليّة “طوفان الأقصى”، أي ما يزال المنهج نفسه مستمرّاً.

مواضيع ذات صلة

عامٌ على العهد الجديد… والوعود مكانها

مضى قرابة عامٍ على العهد الجديد ووعوده الكبرى، غير أنّ الأزمات القديمة لا تزال تراوح مكانها، والإنجازات الموعودة لم تتحقّق بعد. في مقدَّم هذه الأزمات…

فرنسا تتحرّك: لوجاندر إلى بيروت… هل يتبعها ماكرون؟

من الطبيعيّ أن يتساءل كُثر عن دور فرنسا في الخضمّ اللبنانيّ في ظلّ التهديدات الإسرائيليّة بتوسيع الضربات ضدّ “الحزب”. هي الشريك الأوروبيّ في لجنة “الميكانيزم”،…

البابا يستفزّ ترامب بلقاء دي نيرو

منذ انتخابه في أيّار 2025، حرص البابا ليو الرابع عشر، ابن شيكاغو، على توجيه انتقادات ضمنيّة، لكن حازمة لسياسات دونالد ترامب في مجالات الهجرة واللامساواة…

بلاد الرّافدين تئنّ عطشاً: الماء مقابل السّيادة

من يصدّق أنّ بلاد الرافدين مهدّدة بالعطش والجفاف؟ الماء، الذي كان سرّ الحياة والازدهار والثروة في العراق، صار عنواناً للخطر والتهديد. لا يكفي هذا البلد…