هل كانت سنتان من القتال غير المتكافئ كافيتين لإسقاط الرهان على حرب العصابات التقليديّة كخيار ناجع للمقاومة في مواجهة إسرائيل؟ وهل أظهرت التجربة الأخيرة أنّ التكتيكات غير النظامية وغير المتماثلة لم تعُد قادرة على مجابهة التفوّق التكنولوجيّ والاستخباريّ للدول القويّة؟ وإلى أيّ مدى نجحت “عقيدة الضاحية” في تحييد بيئات الدعم للمقاومة؟ وهل ثمنها الإنسانيّ يبرّر نتائجها العسكريّة؟ وما البدائل المتاحة أمام الفصائل وحركات المقاومة؟
عامان من القتال غير المتكافئ في فلسطين ولبنان واليمن وإيران بين عامَي 2023 و2025، قد يكونان كافيَين لإسقاط الرهان نسبيّاً على نمط المقاومة المتعارف عليه، في الصراع بين طرفين غير متكافئين، وهو ما يسمّيه الخبراء العسكريّون الغربيّون، بـ”الحرب غير المتماثلة” (Asymmetric war)، التي عُرفت بها “حرب العصابات” التقليدية (guerilla war) في مواجهة الجيوش، بل إنّ الجيش الإسرائيلي نفسه، استخدم أساليب الحرب غير المتماثلة ضدّ أعدائه، في الحرب الأخيرة، مع أنّه الطرف الأقوى بما لا يُقاس، بالمقارنة مع الذين يقاتلهم. وفي قطاع غزّة، بشكل خاصّ: دمّروا دبّاباته، ومصفّحاته، وجرّافاته في كمائن متقنة، وبفدائية منقطعة النظير، فراح يحرق النازحين في أماكن الإيواء المؤقّتة بالقنابل والصواريخ، بعدما أزال الكتل الإسمنتيّة من وجه الأرض، التي كانت فيما مضى، مساكن، ومدارس، وجامعات، ومستشفيات.
عامان من القتال غير المتكافئ في فلسطين ولبنان واليمن وإيران بين عامَي 2023 و2025، قد يكونان كافيَين لإسقاط الرهان نسبيّاً على نمط المقاومة المتعارف عليه
أنماط مختلفة من القتال
لقد استخدمت إسرائيل في حرب السنتين أنماطاً مختلفة من الحروب، فمنها الحرب غير النظامية (irregular war)، وهي لجوء جيش نظاميّ إلى مجموعات صغيرة خلف خطوط العدوّ، لتخريب خطوط الإمداد، وتوجيه ضربات خاطفة لزعزعة الصفوف، وبثّ الرعب، واغتيال قيادات مؤثّرة، ومنها حرب الإرهاب (terrorism war) ضدّ المدنيّين لإخضاع المقاتلين نفسيّاً، وهو ما وقع فعلاً ضدّ “الحزب” في لبنان، وحركة حماس وبقيّة الفصائل في قطاع غزّة، علاوة على القصف الجوّيّ البعيد المدى في اليمن، وتشكيل منطقة أمنيّة عازلة في سوريا في سياق تفكيك الجبهة الداخليّة فيها.
استخدمت إسرائيل أيضاً “الحرب الهجينة” (hybrid war) بأوضح صورها ضدّ إيران خلال حرب الـ12 يوماً، وهي تعني بحسب تعريف فرانك هوفمان (Frank Hoffman) لها عام 2007، شكلاً جديداً من الحروب في القرن الواحد والعشرين، وتعتمد على تشكيلة من أساليب الحرب النظاميّة وغير النظاميّة، وفق ما تقتضيه الظروف، لتحقيق الأهداف المرسومة. لذا، عمدت إسرائيل في حربها الخاطفة على إيران (13-24 حزيران الماضي)، إلى توجيه غارات طويلة المدى على مواقع المشروع النوويّ، واغتيال قيادات عسكريّة رفيعة المستوى، وأبرز العلماء النوويّين، ومحاولة تحييد شخصيّات سياسيّة أساسيّة في النظام، عن طريق خلايا مدرّبة داخل إيران، وقيادة عمليّات في الداخل، واستخدام مسيّرات بكفاءة عالية، واختراق استخباريّ واسع النطاق، بهدف إسقاط النظام.
سقوط “حرب العصابات” التّقليديّة
كانت حرب العصابات التي قامت بها جماعات المقاومة المدعومة من إيران قد أنجزت انتصارات تكتيكيّة بارزة مطلع هذا القرن، فانسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وانسحب من قطاع غزّة عام 2005. وشجّع الفشل الإسرائيليّ في لبنان خلال حرب تمّوز 2006، على اعتماد التكتيكات نفسها في غزّة: تطوير محلّي للصواريخ حجماً ومدى، وخوض مناوشات قصيرة ومضبوطة غير حاسمة مع إسرائيل كلّ بضع سنوات، ومراكمة الخبرات، والأسلحة، وتجنيد المقاتلين. ولأنّ حركات المقاومة تعمل داخل دول وكيانات رسميّة: “الحزب” داخل لبنان، وهو جزء أساسيّ من البرلمان والحكومة، وحركة حماس في القطاع، وهي جزء عضويّ في النسيج الفلسطينيّ القائم بعد اتّفاقات أوسلو 1993 و1995، ولا سيما إثر خوضها الانتخابات التشريعية عام 2006، وحتّى انقلاب “الحزب” على الحكومة عام 2008، لم يكن يهدف إلى الخروج من الازدواجيّة المفيدة له، كما أنّ انقلاب “حماس” على السلطة الفلسطينيّة في القطاع عام 2007، لم يُخرجها تماماً من الإطار الرسميّ، وبقيت قوّة أمر واقع، لديها سلطة موازية، وحكومة، وبيروقراطيّة مدعومة. هذه التركيبة السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة المعقّدة، صنعت المستنقع الذي استنزف إسرائيل على نحوٍ محرج ومتصاعد.
ليس مبرَّراً تجاهل كلّ الخيارات في مواجهة العدوان. وعليه، لا مناصّ من “المواجهة الهجينة” باستعمال كلّ الوسائل والأدوات في وقت واحد
وجدت إسرائيل نفسها في مأزق، على الرغم من استثمارها السياسيّ الناجع في التناقضات بين ميليشيات المقاومة التي تتحوّل تدريجاً إلى أشباه دول، وأشباه جيوش، ودرست في العقدين الماضيين، خططاً بديلة لمجابهة أنواع الحروب غير النظاميّة التي باتت تُحرجها منذ عقود، وهي حرب العصابات، أو الحرب غير النظامية، أو الحرب الهجينة. لذا، لجأت إلى استراتيجية جديدة ظهرت بوادرها الأولى في حرب تمّوز 2006، وهو ما حمل اسم “عقيدة الضاحية”، التي نظّر لها قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت، أي تدمير البيئة المدنيّة المساندة للمقاومة بشكل منهجيّ، أي تجفيف المستنقع التي تعمل فيه عادة المقاومة، وذلك عندما أقدم سلاح الجوّ الإسرائيلي على الإطاحة بكتل عمرانية كاملة في الضاحية الجنوبية في تلك الحرب.
تعزّز هذا الاتّجاه على نحوٍ غير مسبوق في الحرب على غزّة عقب “طوفان الأقصى”، عندما لم يكتفِ الإسرائيليّون بتدمير أحياء معيّنة وأبراج شاهقة، كما حدث في معارك سابقة في القطاع، بل ذهبوا إلى تدمير عمرانها على نحوٍ شبه شامل، وإعادتها إلى العصر الحجريّ حرفيّاً، عاريةً من أيّ وسيلة من وسائل العيش الأدنى، وهو كان الخيار الإسرائيلي الوحيد، كما يبدو، للتعامل مع الاكتظاظ السكانيّ الهائل الذي يمكن أن يتحرّك المقاومون من خلاله بسهولة كغطاء لا مفرّ منه على الرغم من شبكة الأنفاق المتعرّجة.
قضت الخطّة الإسرائيليّة بتحويل الغطاء المدنيّ الكثيف من أفضليّة إلى عبء ثقيل، لتحقيق ما أراده نتنياهو منذ بداية الحرب، وهو ما سمّاه بـ “النصر الكامل”. ولا يعني بذلك أقلّ من رفع الرايات البيض، والاستسلام غير المشروط للمقاومة الفلسطينية، على مختلف فصائلها، وتسليم ما بقي من سلاح وأنفاق، علاوة على الإفراج عن الأسرى الإسرائيليّين دون مقابل. وبما أنّ هذا لم يحدث في نهاية الحرب، مع فرض الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب خطّته ذات البنود العشرين، فإنّ النصر الإسرائيليّ الكامل لم يتحقّق.
تطوّرٌ مهول
لكن في الوقت نفسه، دمّر الإسرائيليّون بيئة المقاومة على المدى المنظور، عندما جعلوا القطاع كلّه غير قابل للعيش فيه. وفي جبهة الشمال، مع “الحزب” في لبنان، ثمّة خلاف من وجه، واتّفاق من وجه آخر بالمقارنة مع ما حدث في غزّة. فالجيش الإسرائيليّ نفّذ “سيناريو غزّة” في الشريط الحدودي الذي احتلّه في الجنوب، وجعله منطقة عازلة، مفرّغة من الحجر، وكذلك من البشر. ودمّر كثيراً من المباني في ضاحية بيروت، وفي مناطق البقاع الشمالي، إلّا أنّه بخلاف غزّة، لم يستهدف المدنيّين بشكل منهجيّ كما فعل في غزّة، لعدّة اعتبارات، من أبرزها أنّ إسرائيل حصلت على ضوء أخضر من حلفائها، لا سيما الولايات المتّحدة، لاستهداف المدنيّين الفلسطينيّين في القطاع، بسبب قتل المدنيّين الإسرائيليّين واختطافهم بالقوّة إبّان عمليّة “طوفان الأقصى” في 6 تشرين الأوّل عام 2023. فيما حافظ “الحزب” طوال عمليّة مساندة غزّة، على تجنّب قصف الأماكن المدنيّة الإسرائيلية بشكل متعمّد، ولم يغيّر منهجه هذا، حتّى عقب التدمير الإسرائيلي المنهجيّ للقرى والبلدات والأحياء في عدّة مدن، وخاصّة في ضاحية بيروت.
خلاصة الدروس المؤلمة من الحرب العاصفة في السنتين المنصرمتين، أنّ التكنولوجيا الجديدة التي بات “الذكاء الاصطناعي” أحد أبرز معالمها، طوّرت بشكل لا يوصف قدرات الجيوش المتقدّمة
خلاصة الدروس المؤلمة من الحرب العاصفة في السنتين المنصرمتين، أنّ التكنولوجيا الجديدة التي بات “الذكاء الاصطناعي” (Artificial Intelligence)، أحد أبرز معالمها، طوّرت بشكل لا يوصف قدرات الجيوش المتقدّمة، لا سيما الجيش الإسرائيلي، في مواجهة جماعات المقاومة بفعّاليّة غير مسبوقة. لقد كانت مسألة التخفّي إمّا في التضاريس المناسبة أو في المدن المكتظّة، وضرب العدوّ من حيث لا يحتسب، من ميزات حرب العصابات، ونقطة القوّة الأساسيّة. فعندما طوّرت الجيوش النظامية أجهزتها الاستخباريّة لملاقاة حرب العصابات وإلحاق الهزيمة بها، مع إجراءات قاسية لفصل المدنيّين عن المقاتلين، تفوّقت إسرائيل على أعدائها الذين باتوا مكشوفين، مع حفر فجوات عميقة بين المقاومة وبيئتها الحاضنة لها.
إقرأ أيضاً: كيف للبنان معرفة ماذا تريد إسرائيل!
هذا الوضع الجديد تماماً، جعل المقاومة بالأساليب القديمة، مغامرة كبرى، بكلّ ما راكمته خلال عقود، ومن دون قدرة على الردّ أو الردع. وهنا يُطرح السؤال: ما البديل؟ وهل يكفي العمل السياسيّ لتحصيل ما أمكن من الحقوق الضائعة؟ إنّ التفوّق العسكريّ الإسرائيليّ لا يسمح بأيّ تسويات في الوقت الراهن. لكنّ ما هو مؤكّد أيضاً أنّ إضعاف الدول والكيانات، كي تبني المقاومات قوّتها الذاتيّة من داخلها، تحت عنوان التحرير، لم يعُد المعادلة المناسبة في المرحلة الآتية، بل العكس هو الصحيح. فعسكرة الصراع بشكل مطلق، والتخلّي عن أيّ أفق سياسيّ ولو مرحليّاً، لم يعودا ممكنين.
ليس مبرَّراً تجاهل كلّ الخيارات في مواجهة العدوان. وعليه، لا مناصّ من “المواجهة الهجينة” باستعمال كلّ الوسائل والأدوات في وقت واحد، وبحسب ما تقتضيه الظروف، ما دامت إسرائيل قد أقفلت كلّ الطُّرُق.
لمتابعة الكاتب على X:
