“دبلوماسية” عربية جديدة للأمن النووي

مدة القراءة 9 د

بعد توقيع الاتّفاق الدفاعي الاستراتيجيّ السعوديّ–الباكستانيّ، أثار تصريح وزير الدفاع الباكستانيّ خواجة محمد آصف بأنّ “برنامج إسلام آباد النوويّ سيكون متاحاً للسعوديّة إذا استدعت الضرورة”، تساؤلات عن انعكاسات هذا الاتّفاق على الأمن الإقليميّ في الشرق الأوسط، خصوصاً في ما يتعلّق بمعادلة توازن الردع النوويّ. تزامن ذلك مع تصاعد التوتّر في الملفّ النوويّ الإيرانيّ وتجدّد احتمالات المواجهة بين إيران وإسرائيل والولايات المتّحدة، إضافةً إلى تصاعد الانتهاكات الإسرائيليّة لسيادة دول عربيّة وأنباء عن توسيع قدرات البرنامج النوويّ الإسرائيلي، وهو ما يضع المنطقة على شفا سباق تسلّح نوويّ ويقوّض الجهود الرامية إلى جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.

 

 

في ظلّ شعور عدد من دول المنطقة بتهديد متزايد واتّجاهها لتعزيز قدرتها على الردع عبر اللجوء إلى “مظلّة الردع النووي”، يبدو أنّ الشرق الأوسط مقبل على مرحلة جديدة من سباق التسلّح وخوض المسار النوويّ. وحذّر المدير العامّ للوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية رافاييل غروسي من احتمال أن “ينضمّ في المستقبل بين 20 و25 قوّة نوويّة إلى النادي النوويّ الذي يضمّ حاليّاً تسع دول، وهو ما يزيد من خطر نشوب صراع نوويّ عالميّ”.  وأشارت تقارير غربيّة إلى أنّ إيران والسعوديّة وتركيا والإمارات وإسرائيل باتت مرشّحة للانخراط في سباق نوويّ، في ظلّ تزايد التوتّر وفقدان الثقة بالتزامات الولايات المتّحدة تجاه أمن حلفائها، وهو ما قد يغيّر جذريّاً ميزان القوى الإقليمي.

في ظلّ شعور عدد من دول المنطقة بتهديد متزايد واتّجاهها لتعزيز قدرتها على الردع عبر اللجوء إلى “مظلّة الردع النووي”، يبدو أنّ الشرق الأوسط مقبل على مرحلة جديدة

لماذا اتّجهت الرّياض شرقاً؟

لم يكن الاتّفاق السعوديّ–الباكستانيّ خطوة مفاجئة، بل جاء تتويجاً لمسار طويل من الإحباط مع واشنطن. فقد أخلفت الولايات المتّحدة مرّتين وعدها للرياض بمساعدتها على تطوير برنامج نوويّ مدنيّ:

المرّة الأولى في عهد الرئيس جو بايدن، الذي ربط التعاون النوويّ بشرطين أساسيَّين:

  • التطبيع الكامل مع إسرائيل.
  • الاكتفاء باستيراد اليورانيوم المخصّب بدل إنتاجه محليّاً.

رفضت الرياض الشرط الثاني حفاظاً على سيادتها، وأسقطت حرب غزّة الشرط الأوّل فعليّاً.

المرة الثانية خلال إدارة دونالد ترامب، إذ اشترطت واشنطن فرض رقابة أميركيّة مباشرة على قطاع الطاقة النوويّة المدنيّة السعوديّ، ومنع أيّ نشاط لتخصيب البلوتونيوم أو اليورانيوم داخل المملكة.

إزاء هذه الشروط، قرّرت الرياض التوجّه شرقاً نحو حليفتها التاريخيّة باكستان، لاستثمار خبراتها النوويّة في تطوير قدراتها التقنيّة، وهو ما اعتُبر ردّاً سعوديّاً على تسييس الملفّ النوويّ من جانب واشنطن وتل أبيب.

لم يكن الاتّفاق السعوديّ–الباكستانيّ خطوة مفاجئة، بل جاء تتويجاً لمسار طويل من الإحباط مع واشنطن

مسار إقليميّ جديد نحو النّوويّ

في مقابل سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها واشنطن، عبر غضّ الطرف عن القدرات النوويّة الإسرائيليّة وحرمان القوى الإقليمية الكبرى من إمكانات مماثلة أو من مظلّات حماية فعّالة، شدّد الرئيس التركيّ رجب طيّب إردوغان على أنّه “لا ينبغي منع تركيا من الحصول على أسلحة نوويّة”. وقد مثّل هذا الملفّ أحد أبرز محاور اللقاء الذي جمعه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض في 25 أيلول الماضي، والذي اتّسم بحفاوة لافتة من الجانب الأميركي. وأعقب اللقاء إعلان وزير الطاقة التركيّ ألب أرسلان بيرقدار توقيع مذكّرة تفاهم للتعاون النوويّ المدنيّ بين أنقرة وواشنطن.

في غضون ذلك، انكبّت دول المنطقة على بناء برامجها النوويّة السلميّة. وبلغت مسيرة الطاقة النوويّة في تركيا مفترَقاً حاسماً مع تشغيل محطّة “أكويو” على ساحل البحر الأبيض المتوسّط، وبدء التخطيط لمحطّتين جديدتين في سينوب على البحر الأسود، وتراقيا غربي البلاد، بما يشكّل فصلاً جديداً في الرؤية التركيّة الطويلة الأمد للطاقة النوويّة. على الرغم من اقتصار هذه المشاريع حاليّاً على الأغراض السلميّة لإنتاج الطاقة، يمنحها نجاح البرنامج النوويّ المدنيّ أداة ضغط ومساومة إضافية في النظام الإقليميّ.

على المنوال ذاته، اتّخذت الإمارات والسعوديّة خطوات متقدّمة في تطوير برامجهما النوويّة. فقد بدأت الإمارات تشغيل مفاعلات “براكة” للطاقة النوويّة، فيما أدرجت السعوديّة مشروع الطاقة النوويّة ضمن “رؤية المملكة 2030”.

على الرغم من نفي الرياض لتقارير صحيفة “نيويورك تايمز” التي تحدّثت عن إنشاء منشأة نوويّة جديدة بالتعاون مع الصين لإنتاج “الكعكة الصفراء”، أعلنت عام 2022 تأسيس “الشركة السعوديّة القابضة للطاقة النوويّة”، وأطلقت مناقصة لبناء أوّل محطّة نووية تضمّ وحدتَي إنتاج كهرباء، ضمن خططها لتوليد الطاقة من المصادر النوويّة. وكشفت عام 2024 عن نيّتها إلغاء نظام الرقابة المحدود على منشآتها النوويّة والتحوّل إلى التطبيق الكامل لاتّفاق الضمانات مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية.

ليس اتّفاق الدفاع الاستراتيجيّ بين الرياض وإسلام آباد إلّا خطوة جديدة تُعيد الزخم إلى البرنامج النوويّ السعوديّ، الذي يتلاقى مع الزخم النوويّ المصريّ

أمّا مصر فقد رسّخت موقعها كدولة رائدة في إنشاء محطّات نوويّة كبيرة بالتعاون مع روسيا وكوريا الجنوبية وألمانيا، بما يجعلها طرفاً مؤثّراً في معادلة التوازن النووي الإقليمي. فبعد اتّفاقها مع موسكو عام 2015 لإنشاء محطّة الضبعة النوويّة، دخل المشروع حيّز التنفيذ في 2017، وبدأت خطواته العمليّة عام 2022، وهو ما وضع القاهرة في مسار تصاعديّ واضح نحو استخدام الطاقة النوويّة لأغراض سلميّة وتنمويّة.

يُعدّ الحلم النوويّ المصريّ مشروعاً قوميّاً طال انتظاره لأكثر من خمسة عقود. بدأت مصر خطواته الأولى في خمسينيّات القرن الماضي، قبل أن يتباطأ في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ويُجمَّد كليّاً في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، ويُعاد إحياؤه اليوم بثلاثة أهداف أساسيّة:

  • أوّلاً، تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة الكهربائيّة.
  • ثانياً، تعزيز المكانة الجيوسياسيّة لمصر كلاعب إقليميّ رئيس.
  • ثالثاً، احتمال تحويله مستقبلاً إلى مظلّة حماية وردع استراتيجيّة، في ظلّ بيئة أمنيّة شديدة الاضطراب.

“الاستثناء” الإسرائيليّ و”القنبلة” الإيرانيّة

في مقابل الجهد العربي والتركي لامتلاك النوويّ السلميّ، والتحفّظ الأميركيّ عليه، تتمتّع إسرائيل بـ”استثناء” يمنحها التفوّق المطلق، الأمر الذي يمثّل جذر الاختلال في ميزان الردع الإقليميّ. تواصل إسرائيل اعتماد سياسة الغموض النوويّ (عميموت غرعيني) التي مكّنتها من بناء ترسانة نوويّة خارج أيّ إطار قانونيّ أو رقابيّ دوليّ. وأجرت خلال حروب السنتين الماضيتين اختبارات على نظام دفع صاروخي مرتبط بصواريخ “أريحا” القادرة على حمل رؤوس نوويّة. وعزّزت مفاعل ديمونا لإنتاج البلوتونيوم، وكثّفت أعمال البناء في منشآت جديدة، وسرّعت برامج تطوير الصواريخ البعيدة المدى والغوّاصات المتطوّرة، وكثّفت التعاون مع دول أوروبيّة لتحديث منظوماتها باستخدام الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدّمة.

 شدّد إردوغان على أنّه “لا ينبغي منع تركيا من الحصول على أسلحة نوويّة”. وقد مثّل هذا الملفّ أحد أبرز محاور اللقاء الذي جمعه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض

سعت أيضاً إلى الاحتفاظ باحتكار الردع النوويّ من خلال تبنّي ما يُعرف بـ “عقيدة بيغن”، القائمة على توجيه ضربات استباقية لأيّ برنامج نوويّ في المنطقة. وفي إطار هذه العقيدة، دمّرت إسرائيل مفاعل “تمّوز 1” العراقيّ عام 1981، وما بقي من المنشآت النووية العراقية خلال حرب الخليج الأولى عام 1990، ثمّ منشأة “الكبر” السوريّة عام 2007، وعارضت مشروع الأردن لبناء محطّة نوويّة عام 2009.

في المقلب المتوسّطي الآخر، تسارعت التطوّرات الخاصّة بالملفّ النوويّ الإيرانيّ بعد انهيار الاتّفاق النوويّ وإعادة تفعيل آليّة “الزناد” (سناب باك)، ورفع سقف المطالب الأميركية إلى مستويات لا يمكن لطهران القبول بها، وهو ما قد يدفعها إلى الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي وتسريع برنامجها العسكري في محاولة أخيرة لحماية نظامها.

يعمّق هذا السيناريو شعور دول المنطقة بالخطر، ويدفعها إلى البحث عن مظلّات ردع بديلة لحماية مصالحها وأمنها، في ظلّ حصار مزدوج بين قوّتين نوويّتين إسرائيليّة وإيرانيّة.

تبرز هنا الحاجة إلى تنويع الشراكات الأمنيّة وعدم الارتهان لشريك دوليّ واحد قد تتغيّر حساباته في أيّ لحظة، وإلى تعزيز القدرات الذاتيّة الردعيّة، وأحد مكوّناتها المحتملة مستقبلاً هو امتلاك أو الوصول إلى مظلّة نوويّة تحمي التوازن الإقليمي وتردع التهديدات.

إقرأ أيضاً: إيران هُزمت… نقطة

على هذا الأساس، ليس اتّفاق الدفاع الاستراتيجيّ بين الرياض وإسلام آباد إلّا خطوة جديدة تُعيد الزخم إلى البرنامج النوويّ السعوديّ، الذي يتلاقى مع الزخم النوويّ المصريّ، ليحملا معاً رسالة ضمنيّة لواشنطن وتل أبيب مفادها أنّ الدولتين ماضيتان في طريقهما نحو امتلاك قدرات نوويّة سلميّة، وربّما ردعيّة، بعيداً عن الشروط والقيود الأميركيّة والإسرائيليّة.

لكن على الرغم من تصاعد منطق القوّة، فإنّ الزخم العربي، ولا سيّما المصري والسعودي، لا يزال يتمسّك بخيار الدبلوماسية. فكلا البلدين يدركان أنّ الردع النوويّ لا يحمي وحده من الانهيار الأمنيّ، وأنّ استدامة الاستقرار الإقليميّ تمرّ عبر إقامة منطقة خالية من الأسلحة النوويّة وأسلحة الدمار الشامل تشمل إسرائيل قبل غيرها.

إعادة إطلاق مبادرات إقليميّة بإشراف الأمم المتّحدة والوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية، وإشراك القوى الكبرى في ضمان توازن عادل للأمن النوويّ، هي السبيل الوحيد لتجنّب الانزلاق نحو عصر نوويّ مفتوح على الفوضى.

مواضيع ذات صلة

الشرع- ترامب: ماذا دار في “الاجتماع السّرّيّ”؟

استغرقت رحلة الرئيس السوريّ أحمد الشرع أحد عشر شهراً من إدلب إلى واشنطن. من يستمع إلى كلمات الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، منذ لقائهما الأوّل في…

لبنان يدور على ذاته… وسوريا في البيت الأبيض!

يُفترض أن يميّز الوضوح الخطاب السياسيّ اللبنانيّ في وقت تزداد الضغوط الأميركيّة، ذات الطابع الماليّ والاقتصاديّ، على البلد من جهة، والضغوط العسكريّة الإسرائيليّة من جهة…

نتنياهو يُعمّم الفوضى… ليستمرّ

منذ تشكيله ائتلافه اليمينيّ المتطرّف في كانون الأوّل 2022، يجد رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو نفسه أمام أزمات تتراكم ولا تنتهي، من فضائح فساد شخصيّة،…

فيدان في واشنطن: بداية مثلّث إقليميّ؟

لن يكون التصعيد التركيّ – الإسرائيليّ حدثاً طارئاً أو عمليّة كرٍّ وفرٍّ في مواجهتهما على أكثر من جبهة وحسب، بل حلقة جديدة في مسار صراع…