تمشي الجمهورية الخامسة الفرنسية في دروب مرحلة دقيقة وتاريخيّة. قد تكون الأخطر. تتخلّلها أحداث غير معهودة. لكنّها تثبت بصفة دائمة أنّها دولة القانون والمؤسّسات. طافت على مسرحها موجات من التغيّرات والتبدّلات السياسية والماليّة والأمنيّة. ربّما أبرزها أخيراً “الثورة القانونيّة” مع تحوّلات في معايير الأمنَين القضائيّ والقانونيّ، من خلال الحكم القضائيّ التاريخيّ للمرّة الأولى على رئيس الجمهوريّة الأسبق نيكولا ساركوزي.
أكّد الحكم فعل الإدانة الجرميّة على الرئيس بالقانون بحسب المادّة 450. حُكم عليه بالسجن خمس سنوات. غرّمته المحكمة مئة ألف يورو بتهمة التآمر الجنائيّ. ويعرّفه القانون الفرنسي بأنّه تآمر شخصين أو أكثر على ارتكاب جريمة جنائيّة حتّى لو لم يتمّ تنفيذها، مع أمر إيداع مؤجّل وتنفيذ مؤقّت.
أعلن ساركوزي نيّته استئناف الحكم، إلّا أنّ من الممكن أن يكون في السجن بانتظار المحاكمة الثانية مع تنفيذ المفعول الفوريّ. في حين أنّ المبدأ في القضايا الجنائيّة هو تنفيذ الحكم بعد صدور حكم نهائيّ، لكنّ للقاضي سلطة الأمر والقانون في تنفيذ الحكم مؤقّتاً في أطواره الابتدائيّة. سيستدعي مكتب المدّعي العامّ الماليّ ساركوزي وسيبلغه بتاريخ سجنه خلال شهر. فهل يتوجّه ساركوزي إلى السجن؟ وهل يتمكّن من تعديل الحكم أو تخفيفه في حال صدوره بشكل نهائيّ؟
تمشي الجمهورية الخامسة الفرنسية في دروب مرحلة دقيقة وتاريخيّة. قد تكون الأخطر. تتخلّلها أحداث غير معهودة. لكنّها تثبت بصفة دائمة أنّها دولة القانون والمؤسّسات
ساركوزي والفضائح الدّائمة
عاد ساركوزي من جديد إلى الأضواء. وهذه المرّة من قاعة المحكمة، وليس من قصر الإليزيه. وجد نفسه بعد خروجه من القصر جزءاً من الفضائح، وفي قلب عواصف التحقيقات القضائيّة والمحاكمات الجنائيّة. أهمّها قضيّة التنصّت التي جُرّم من خلالها بسعيه إلى الاتّفاق مع أحد القضاة ورشوته لقاء نيله قرائن وأدلّة معلوماتيّة متعلّقة بأحد التحقيقات ضدّه. وتدينه قضيّة بجماليون بتجاوز الحدّ القانونيّ للإنفاق في حملته الانتخابيّة الرئاسية في عام 2012.
كثرت فضائحه وكذلك محاولات ملاحقته. كشف الحكم الأخير عن بعضها، لكنّها ما تزال تحتوي على مناطق غامضة. لا تقدّم الإجراءات في ذاتها أساساً لإثبات أنّ الأموال المُرسلة من ليبيا للحملة الانتخابية، لكن يبدو أنّ هناك معلومات عن إرسال شخصيّات ليبيّة أموالاً لتمويل الحملة الانتخابيّة المنتصرة لساركوزي، وهو ما يمنعه القانون الفرنسيّ. لم تطلب منه إثبات أصل الأموال التي وصلت فعليّاً من القذّافي، بل اكتفت فقط بوجود دليل أو شبهة ظنّيّة على ترتيبات لإرسال الأموال.
فكفكة قضيّة التّآمر الجنائيّ
تنتظر الإدارة الفرنسيّة فكفكة كلّ العقد المتعلّقة بهذه القضيّة من قبل السلطات القضائيّة المختصّة. وقد تأخذ طبيعتها شكل الرشوة والإثراء غير المشروع، أو إساءة استخدام السلطة بالفساد. هذا إلى جانب غيرها من الأنشطة الإجراميّة المرتكَبة من قبل متسلّمي المناصب العامّة لمآرب شخصية سياسية وماليّة. لكنّ أخطر ما ينتظر ساركوزي هي ملابسات القضيّة المتعلّقة بجمعيّة الأشرار التآمريّة وتلقّيه تمويل مباشر غير شرعيّ من نظام القذّافي السابق، والتي تشير بإحكام إلى نموذج علاقته بأشخاص مدانين وفق القضاء الفرنسي في اعتداءات طائرتَي لوكربي و”يو.تي.آي” التي قُتل فيها 54 فرنسيّاً في عامَي 1988 و1989.
عاد ساركوزي من جديد إلى الأضواء. وهذه المرّة من قاعة المحكمة، وليس من قصر الإليزيه
تمكّنت القضيّة بوثائقها المركّبة من شقّ طريقها بثبات نحو المحكمة. كان من الممكن تعطيلها في أيّ لحظة. لكنّها تمتّعت بسلسلة متينة من التشابك القانوني والقضائي حافظت عليها على الرغم من كلّ حملات التراشق الإعلاميّ وأمواج التشكّك والتسييس في الأحكام.
برّأت المحكمة الجنائيّة ساركوزي من عدّة تهم موجّهة إليه من النيابة العامّة الماليّة الوطنية مثل الفساد السلبيّ والتمويل غير القانونيّ للحملات الانتخابيّة واختلاس أموال عامّة ليبية. لكنّه علق في قضيّة التآمر الجنائيّ التي تُعتبر قضيّة أمن قوميّ فرنسيّة وتحقّق فيها السلطة القضائية الفرنسية لمعرفة مدى احتمال تدخّل الدولة الفرنسية إبّان فترة حكم ساركوزي في الأحداث الليبية بصفة شخصيّة.
تلطّى ساركوزي لأسباب مصلحيّة خاصّة بتحالف دوليّ انتهى بمقتل القذّافي للهروب من هذه القضيّة وحماية نفسه، وللحؤول دون اكتشاف العديد من ملحقاتها. لذلك لا تشكّل هذه المحاكمة ضربة لساركوزي فقط، لكنّها عمليّة قانونيّة وقضائيّة وأمنيّة مهمّة لمستقبل الديمقراطيّة في فرنسا وأوروبا، وتشغل بال العديد من السياسيّين، وتهدف إلى تثبيت مبدأ عدم سموّ السياسيّين على القانون. وتشدّد السلطة القضائيّة الفرنسية على أنّها ليست انتقاماً من السياسيّين والشخصيّات النافذة، بل تحقيق للعدالة التي يجب أن تقوم.
إقرأ أيضاً: الثّقة الباريسيّة المفقودة تفتح الباب لانتخابات مبكرة؟
تنطلق الجمهوريّة من شعارها الثلاثيّ ومن قوّة القضاء فيها، ومن أنّها دولة العدالة والقانون والمؤسّسات. تحلّ أكبر المشاكل والاختلافات تحت سقف المؤسّسات الدستوريّة والقضائيّة فقط. فلا يوجد أمر أو واقعة محصّنة من المساءلة القانونيّة أو لا يستطيع القضاء وضع يده عليها والنظر والحكم فيها حتّى لو كان المعنيّ بها رئيساً سابقاً.
لا مكان لأحد في فرنسا فوق القانون حتّى لو كان رئيساً. إنّها إشارة قويّة إلى تمكين دولة القانون، ودلالة على عدم احتمال الإفلات من العقاب. ففي بلد شعاره الحرّية والمساواة والأخوّة، لا يوجد أيّ فصل بين السلطة والعدالة، حتّى في أعلى مراتب الجمهوريّة. فهل يقضي رئيس الجمهوريّة الأسبق بضعة أيّام أم المدّة كلّها خلف القضبان؟
