المسألة الخلافيّة المطروحة في لبنان حول حصريّة السلاح متلازمة مع حصريّة السيادة، لا سيما أنّ الدولة مولجة بالاثنين معاً. للسيادة بعدان مترابطان: واحد محوره قرار الدولة في الشؤون الداخليّة، وآخر يتعلّق بعلاقات الدول فيما بينها. ربّما لبنان هو الحالة الوحيدة في النظام العالمي الراهن التي تكون فيها سيادة الدولة منتقصة في الداخل وتجاه الخارج.
نادراً ما تُطرح سيادة الداخل لأنّها قائمة في معظم الدول، سواء كانت أنظمتها ديمقراطيّة أو سلطويّة. برزت حالات مختلفة لجهة السيادة الداخلية، لا سيما في بلدان أميركا الجنوبيّة، حيث اصطدمت الدولة مع جماعات مسلّحة تعمل بتجارة الممنوعات. في المقابل، حركات التحرير التي تصدّت للدولة والنظام الحاكم، مثلما كانت حال الجزائر وفيتنام، خاضت المواجهة من أجل السيادة بوجه الاحتلال. في المحصّلة، احتكرت الدولة “العنف الشرعيّ” عبر حصريّة السلاح، وفق مفهوم Max Weber السائد.
أمّا البعد الخارجيّ للسيادة فجذوره تعود إلى اتّفاقات Westphalia منتصف القرن السابع عشر بعد ثلاثين عاماً من الحروب في أوروبا. ومع تطوّر هذا المفهوم نشأ مبدأ عدم جواز تدخّل دولة بشؤون دولة أخرى، وتعزّز لاحقاً بالقانون الدوليّ.
المسألة الخلافيّة المطروحة في لبنان حول حصريّة السلاح متلازمة مع حصريّة السيادة، لا سيما أنّ الدولة مولجة بالاثنين معاً
حسم أولويّة السّيادة
من جهتها إسرائيل حالة مغايرة لأنّها دولة نشأت على حساب شعب يطالب بحقّه السياديّ في دولة، وتحديداً في زمن الدولة الوطنيّة. وفي هذه الحالة لسنا أمام تدخّل خارجيّ في شؤون دولة أخرى، بل احتلال كامل على قاعدة أنّ فلسطين أرض بلا شعب، وفق السرديّة الصهيونيّة. أمّا السيادة في المفهوم الإسرائيليّ فتُفرض بالقوّة، ثمّ يأتي الاعتراف الدوليّ.
في زمن مضى كانت السيادة موضع التباس في لبنان لأسباب تعود إلى ظروف نشوء الدولة في العشرينيّات، مثلما كانت حال دول الجوار العربي، وتمّ الحسم مع اعتماد الميثاق الوطني المتلازم مع الاستقلال في عام 1943. تبدّلت الأوضاع مع انطلاق الناصريّة والوحدة القوميّة في الخمسينيّات وبدت السيادة مؤقّتة، إلى حين الحسم لمصلحة أولويّة السيادة في الدولة القُطريّة التي جرفت الوحدة بين مصر وسوريا ثمّ بين سوريا والعراق البعثيَّين. ومع المنظّمات الفلسطينية بعد 1967 ارتبطت السيادة باستقلاليّة قرارها السياسي والعسكري داخل الدول التي انطلق منها الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين. وسرعان ما وقع الصدام في الأردن ثمّ في لبنان، ولم يكن متاحاً لمنظّمة التحرير أن تتنظم وتتحرّك في دول أخرى لأسباب سياديّة.
خلال سنوات الحرب في لبنان سادت الميليشيات على أنقاض الدولة. وبعد انتهاء الحرب أصبح قرار الدولة في الداخل ومع الخارج بيد سوريا بغطاء دوليّ وعربيّ، وإلى جانبه قرار إيران النافذ عبر “الحزب”. جاءت الترجمة العمليّة لهذا الواقع مع تفاهم نيسان 1996، وبعد أربع سنوات نجح “الحزب” في تحرير الجنوب من الاحتلال.
خرجت إسرائيل وسوريا من لبنان لأسباب مختلفة ولم تنتهِ النزاعات الإقليمية المسلّحة المرتبطة بلبنان، إلّا أنّها باتت مختلفة في مسارها وغاياتها، خصوصاً بنظر الجهات المعنيّة في المنطقة والعالم. هكذا اختلفت حرب 2006 وتداعياتها عن حرب 1996 وما سبقها منذ مطلع السبعينيّات. ومع انخراط “الحزب” بالحرب السوريّة ودوره الفاعل في اليمن والعراق، وصولاً إلى حرب الإسناد في 2023، باتت المواجهات عمليّاً جزءاً من النزاع العربي – الإسرائيلي، مضافاً إليه محور إيران.
لكن مع “طوفان الأقصى” وحرب الإسناد تبدّلت المعادلات وأضحى تحرير فلسطين قضيّة “الحزب” الأولى. في المقابل، بدّلت إسرائيل قواعد الاشتباك في 2024 وأصبحت الأولويّة استهداف “حماس” و”الحزب” المدعومين من إيران. ومع سقوط نظام الأسد في سوريا خسرت إيران نفوذها و”الحزب” عمقه الاستراتيجيّ.
في لبنان، المنهك اقتصاديّاً واجتماعيّاً، استعادت السيادة مكانتها في إطار دولة لا بدّ أن تتحمّل مسؤوليّة ما يجري على أرضها
المأزق المؤجّل
في لبنان، المنهك اقتصاديّاً واجتماعيّاً، استعادت السيادة مكانتها في إطار دولة لا بدّ أن تتحمّل مسؤوليّة ما يجري على أرضها، وهو ما يعني أنّ معادلات الماضي انتفت جدواها، خلافاً لما كانت عليه زمن الوصاية بغطاء دوليّ وإقليميّ. استعادت أميركا حركتها والسعوديّة موقعها دعماً للاستقرار في سوريا وللدولة صاحبة السيادة في لبنان. ومع إقرار الحكومة حصريّة السلاح باتت البلاد أمام حصريّة من نوع آخر: التمثيل الشيعيّ في الحكومة ومجلس النوّاب. أمّا الرفض باسم الميثاقيّة فيكون وازناً عندما تتميّز الميثاقيّة بثباتها في الممارسة العمليّة، فلا تكون موسميّة أو “غبّ الطلب”.
اختلفت طبيعة التدخّل الخارجيّ هذه المرّة: تدخّل دوليّ وعربيّ يقابله تدخّل إيرانيّ لمصلحة الأمر الواقع القائم منذ عقود. واحد يدعو إلى حصريّة السلاح بيد الجيش وآخر ليس مناوئاً في لبنان وحسب بل وفي العراق حيث إسرائيل لا تحتلّ أيّ شبر من أرضها. باختصار، إنّه التعارض بين وظيفة لبنان الساحة ولبنان الدولة.
الواقع أنّ وظائف حروب الجنوب منذ أكثر من نصف قرن لم تعد قائمة. سلك ياسر عرفات طريق المقاومة وعاد إلى فلسطين، بعد محطّات الأردن ولبنان وتونس. سارت سوريا بخيار الهدوء في الجولان المحتلّ منذ 1974. خرجت مصر والأردن من النزاع العربي – الإسرائيلي. بدورها تواجه إيران الأعداء من أجل حماية مصالحها، إذ لا علاقة بين مستوى تخصيب اليورانيوم بالتحرير في فلسطين ولبنان. وتواجه أميركا ترامب إيران في كلّ مكان. من جهتها تحتلّ إسرائيل وتقتل من أجل مصالحها ولا تقيم للقوانين الدوليّة أيّ اعتبار.
إقرأ أيضاً: بن فرحان يُغازل برّي: إعمار الجنوب يمرّ برعايته
أمّا في لبنان فالمأزق مؤجّل منذ عقود ولقد دقّت ساعة الحسم الآن. ديناميّة النزاعات الإقليمية من لبنان حدودها في النهاية حتميّة الصدام مع إسرائيل. هذا ما حصل مع منظّمة التحرير في 1982 ومع “الحزب” أخيراً. ويبقى السؤال: هل للبنان مصلحة في طيّ صفحة حروب لم تعد مجدية وسلاح بحاجة إلى من يحميه، علماً أنّ “الحزب” حرّر الجنوب بالكاتيوشا وليس بالصواريخ المتطوّرة؟
الخلاف الداخليّ مكلف، بينما التسوية أقلّ كلفة، وليست على حساب أيّ طرف لجهة التوازنات السياسية والحقوق والمكتسبات، بل على حساب نزاعات إقليميّة متفلّتة بين دول تقيم الاعتبار الأوّل لمصالحها وسيادتها، عدوّة كانت أم صديقة.
