دعم أميركا لإسرائيل قائم وفاعل منذ عقود، إلّا أنّه مرتبط اليوم بأولويّات إدارة دونالد ترامب التي تختلف عن طبيعة العلاقات التقليدية بين الدولتين. أصبحت واشنطن الداعم الأوّل لإسرائيل بعد حرب 1967 عندما أثبتت تفوّقها العسكري، وباتت “قيمة استراتيجيّة” بسعي حثيث من مؤيّدي إسرائيل في دوائر القرار الأميركي.
قبل ذلك، دعمت بريطانيا الحركة الصهيونية والتزمت تنفيذ وعد بلفور زمن الانتداب بإشراف مسؤول بريطاني صهيوني معروف، ثمّ اصطدمت معها عسكريّاً وسياسيّاً بعدما اتّخذت لندن موقفاً وسطيّاً بين المتنازعين. وما أنقذ المشروع الصهيوني في الأربعينيّات، وتحديداً لجهة رفع القيود عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، هو الإبادة الجماعية النازيّة في الحرب العالميّة الثانية، علاوة على تشتّت الموقف العربي.
لا يُختزل همّ أميركا اليوم في المنطقة بتعزيز نفوذ الغرب عبر دعمها لإسرائيل، كما يزعم البعض. فالنفوذ الأميركي حاليّاً بلغ سقفه الأعلى في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، وفي العالم العربي وتركيا تحديداً، وتعزّز مع تراجع نفوذ روسيا بعد انتهاء الحرب الباردة واندلاع حرب أوكرانيا وسقوط نظام الأسد في سوريا. وهذا يعني أنّ أميركا ليست بحاجة إلى إسرائيل لتعزيز نفوذها الإقليمي.
إيران تتصدّر المواجهة
إيران وحدها اليوم تتصدّر المواجهة مع الدولة العظمى. والعداء بين الطرفين متواصل منذ اقتحام السفارة الأميركية في طهران في 1979 واحتجاز موظّفيها، مضافاً إليه اعتداءات على السفارة الأميركية وقوات المارينز في بيروت في 1983 أودت بحياة عدد كبير من العسكريّين خارج ساحات القتال. أمّا النزاع بين إيران وإسرائيل فدوافعه مختلفة لدى كلا الطرفين، وكذلك جذوره التاريخية وسياقه والغايات.
أميركا ليست بحاجة إلى إسرائيل لتعزيز نفوذها الإقليمي
تلاقت مصالح أميركا وإسرائيل في التصدّي لإيران وحلفائها الإقليميين. هدف إسرائيل الأوّل السيطرة على كامل فلسطين وعلى ما أمكن في المحيط المباشر، بينما غاية أميركا تأتي في سياق سياسات الدولة العظمى في مواجهة الأعداء: إيران والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وروسيا، وصولاً إلى كندا والمكسيك وسواهما لأسباب اقتصادية. بكلام آخر، مصالح أميركا وإسرائيل ليست دائماً متطابقة، وهذا الواقع ليس نتاج مؤامرة بين شرق وغرب أو بين المستضعفين والاستكبار، بل تكامل في الغايات بمواجهة أعداء مشتركين. تتصدّى واشنطن لإيران النوويّة وليس للنظام، بينما إسرائيل تسعى إلى إسقاطه.
مصالح متباينة في سوريا
في سوريا، مثلاً، مصالح أميركا وإسرائيل متباينة تجاه الحكم الجديد. وفي فلسطين، إسرائيل تريد بالدرجة الأولى إسقاط حلّ الدولتين، بينما أولويّة واشنطن إسقاط “حماس” المدعومة من إيران. والعرب ليسوا بعيدين عن التوجّه الأميركي. أمّا في لبنان فالتقاطع بين أميركا وإسرائيل عنوانه “الحزب” واستعادة الدولة قرارها وقدراتها. وظائف حروب لبنان تبدّلت منذ السبعينيّات إلى اليوم. فلا عودة إلى زمن مضى، بدءاً بتفاهم نيسان 1996، الذي لاقى دعماً دولياً وعربياً برعاية أميركية – فرنسية، وصولاً إلى حرب 2006. القرار الأممي 1701 في 2006 بقي حبراً على ورق ولم يلتزمه كلا الطرفين. أمّا قرار 2024 ومقدّمته الجديدة الواضحة فجاء ترجمةً للتحوّلات الكبرى الأخيرة وتداعياتها دوليّاً وإقليميّاً.
إذا كانت غايات أميركا وإسرائيل معروفة، فالسؤال هو عن إيران في ضوء ما استجدّ. أربعة أهداف تسعى إليها إيران: التوسّع والنفوذ الإقليمي في سياق “تصدير الثورة”، تطوير القدرات النووية لأغراض سلميّة في العلن وعسكريّة مكتومة إلى حين التوقيت المناسب، فكّ الحصار الدولي المفروض من أميركا وغيرها، والحفاظ على نظام الحكم والسيطرة في الداخل. تتصدّى إسرائيل للأهداف جميعها، بينما واشنطن معنيّة بالنوويّ وتمدّد إيران الإقليمي.
لا يُختزل همّ أميركا اليوم في المنطقة بتعزيز نفوذ الغرب عبر دعمها لإسرائيل، كما يزعم البعض
ثمّة فارق كبير بين التوسّع في النفوذ لدولة طامحة، وامتلاك القدرات النووية. فتركيا مثلاً تكتفي بالنفوذ في أيّ مكان متاح. والهند وباكستان نوويّتان بدوافع قوميّة مرتبطة بالخصومة التاريخية بينهما وليس بهدف التوسّع في المحيط المباشر باسم ثورة، دينيّة كانت أم قوميّة. ليست روسيا والصين المناوئتان لواشنطن بوارد التصدّي لأميركا من أجل إيران. لا بل تركيز الصين محوره تايوان، وكوريا الشمالية، التي يحتمي نظامها بالنوويّ، لا ترفع لواء تحرير كوريا الجنوبية من الإمبرياليّة والاستعمار.
رفض الأجندة الإيرانية
المجتمع الدولي يرفض الأجندة الإيرانية، وإن أصّرت إيران على محاربة الاستكبار وتحرير فلسطين، فلا هذا ولا ذاك يشكّلان دافعاً دوليّاً لمهادنة إيران ومناصريها في المنطقة. هذا أمر واقع فرضته التحوّلات الكبرى في المنطقة في السنوات الأخيرة. ظروف الثمانينيّات، زمن الحرب بين العراق وإيران ولّت، ومعادلات التسعينيّات على الجبهة بين لبنان وإسرائيل لم تعد قائمة، وصولاً إلى “طوفان الأقصى” الذي ردّت عليه إسرائيل بما هو أقصى وأفدح وبلا تمييز بين بشر وحجر.
إقرأ أيضاً: من بوتين إلى كيم: أبطال ترامب المُلهِمون
معادلات الماضي انتفت وظائفها. القطار سائر بدربه والمصالح الذاتيّة تأتي في الصدارة سواء لأميركا وإسرائيل أو في حسابات إيران أو أيّ طرف آخر معنيّ مباشرة أو بالواسطة.
*أستاذ جامعي وسفير سابق.
