ترامب يدفع بإسرائيل الكبرى: أين المقاومة السّياسيّة؟

مدة القراءة 6 د

يأخذ أركان الحركة الصهيونية على مؤسّس دولة إسرائيل ديفيد بن غوريون أنّه لم يكمل المهمّة بابتلاع باقي الأرض الفلسطينية. حاول من جاء بعده “تصحيح خطأ المؤسّس”، بالتضييق على ما بقي من فلسطينيين لدفعهم إلى الاستسلام من دون قيد أو شرط، وأن يرضوا بالسلامة الشخصية لا أكثر ولا أقلّ. وكلّما ازداد عناد الفلسطينيين والتمسّك بما بقي من أرضهم، اشتدّت المحاولات الإسرائيلية لدفعهم إلى الرحيل وترك “أرض الميعاد” والبحث عن وطن بديل خارج “إيريتس إسرائيل” كي تكون وطناً حصريّاً لليهود.

 

قاد ياسر عرفات “هجوماً” سياسيّاً بغرض الحصول على الضفّة الغربية وقطاع غزّة، فوقّع “اتّفاق أوسلو” حالماً بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967. لكنّ إسرائيل أسقطته في فخّ “الدولة الوهم” من أجل إنهاء الكفاح المسلّح ودكّ القضية الفلسطينية. وعندما أدرك الرجل استحالة تحقيق حلمه سلماً قاد بنفسه الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي أدّت إلى تسميمه. حينها روّجت الدعاية الغربية وبعض الدول العربية أنّ أبا عمّار “أعاق التسوية السلمية”.

رحل عرفات وتولّت “حمامات” السلام الفلسطيني ما سمّي بالسلطة، وظنّت أنّ بناء مؤسّسات السلطة سيقود إلى قيام الدولة الموعودة، وتبارى رموزها بعضهم مع بعضٍ في تقديم التنازلات لإسرائيل لإرضائها. كانت النتيجة توسيع الاستيطان والتهويد والتضييق في الضفّة وحصار غزّة وشرذمة الفلسطينيين وبقيّة أرضهم.

الشغل الشاغل لإسرائيل والهاجس الكبير كانت الضفّة، لا غزّة التي تخلّى أرييل شارون عنها وتركها وحدها موطناً للفلسطينيين. لكن لا الضفة ارتضت بانفصال القطاع عنها، ولا غزّة قبلت بالابتعاد عن قلبها والقدس، ولا “المقاومة” في غزة نجحت في الردع ولجم المطامع الإسرائيلية، ولا تيّار “السلام” والبحث عن تسوية نجح في تحقيق ما فشلت المقاومة في تحقيقه.

قاد ياسر عرفات “هجوماً” سياسيّاً بغرض الحصول على الضفّة الغربية وقطاع غزّة، فوقّع “اتّفاق أوسلو” حالماً بإقامة الدولة الفلسطينية

الخشية من نقل المقاومة إلى الضّفّة

مشكلة إسرائيل الحقيقية لم تكن مع “مقاومة” غزّة، ذلك أنّها كانت تحت السيطرة الجغرافية والعسكرية الإسرائيلية، وكانت تغضّ الطرف عنها وربّما تشجّعها سرّاً لتكريس التباعد بين الضفّة والقطاع. لكنّها كانت تخشى أن تصير المقاومة الغزّيّة نموذجاً يقتدى به في الضفّة، وعندها تكون الطامة الكبرى. هذه الطامة وقعت مع حدوث “طوفان الأقصى”. وأيّ احتمال لطوفان مماثل في الضفّة سيكون عندها في قلب إسرائيل نفسها، لا في غلاف غزة البعيد نسبيّاً عن المركز، وسيكون مدمّراً.

ترامب

هكذا لم يعد الهدف الاستراتيجي لإسرائيل تدمير مقاومة غزة فحسب، بل تدمير نموذج غزّة وغزّة نفسها وسحقها سحقاً، حتى تصير أمثولة لغيرها، وليس فقط للضفّة الغربية، بل للمنطقة بأكملها، والتمهيد للانتقال الكبير نحو تحقيق حلم “من النيل إلى الفرات”.

بالنسبة لإسرائيل، ليست الحرب التي تخوضها حرباً محدودة، بل حرب مفتوحة، حرب وجود، وفرصة لن تتكرّر لإقامة إسرائيل الكبرى وتغيير وجه المنطقة برمّتها. إسرائيل لا تخوض الحرب وحدها. أميركا معها وخلفها. المشروعان الأميركي والإسرائيلي صارا واحداً. التنفيذ على عاتق بنيامين نتنياهو وزمرته المتطرّفة، والإدارة والقيادة وتوفير الدعم والإسناد تتكفّل بها واشنطن.

في المقابل، الفلسطينيون غير قادرين وحدهم على المواجهة، وليسوا متّفقين على صيغة موحّدة للمواجهة بحدّها الأدنى. أمّا العرب الآخرون، ومنهم من بات في عين العاصفة الإسرائيلية، فيدفنون رؤوسهم في الرمال وكأنّ ما يحدث في ديارهم يجري في كوكب آخر. إعلان رفض التهجير لا يعني وقفه. والتمسّك اللفظي بمبدأ حلّ الدولتين لا يقيم الدولة الفلسطينية.

عودة ترامب تقلب الطّاولة

قلبت عودة دونالد ترامب، الرئيس الخارج عن المألوف، إلى البيت الأبيض، في غضون أيّام، السياسة الأميركية رأساً على عقب، لكنّه احتفظ بالثابت الأميركي الوحيد، وهو الدعم المطلق لإسرائيل، بل ذهب إلى أبعد بكثير من أسلافه بإطلاق يدها في توسيع حدودها وجعلها الإمبريالية الصغرى في الشرق الأوسط.

ترامب رجل السلام الاقتصادي المتخلّي عن التوق للحروب قدّم في الأمس الهديّة الكبرى لنتنياهو

لم تتوقّف الحرب على غزة، إذ تمّ التوصّل إلى هدنة مؤقّتة أفسحت المجال لإسرائيل لاغتنام فرصة انهيار نظام آل الأسد في سوريا لتوسيع الانتشار العسكري الإسرائيلي فيها وجعلها منزوعة السلاح، بعدما دمّرت قواعد “المقاومة” في جنوب لبنان، وقطعت أوصال إمدادها الداخلية والخارجية.

ترامب رجل السلام الاقتصادي المتخلّي عن التوق للحروب قدّم في الأمس الهديّة الكبرى لنتنياهو. أعطاه الضوء الأخضر لمواصلة تدمير غزة حتى تصير أرضاً خلاء تصلح لإقامة المنتجعات الرملية.

يبدو أنّ المحادثات السرّية “المستغرَبة والفريدة من نوعها”، التي أجراها مبعوث الرئيس الأميركي لشؤون الرهائن آدم بولر مع “حماس” لإطلاق الرهائن الأميركيين المحتجزين لديها والجثث، لم تصل بعد إلى النتيجة المرجوّة، فلجأ ترامب إلى تهديد الحركة بفتح نار “جهنّم” عليها وعلى غزة إذا لم تسارع إلى إطلاق كلّ الرهائن ولم يرحل قادتها إلى خارج القطاع، مضيفاً في منشور له على منصّة “truth social” أنّه سيوفّر لإسرائيل “كلّ ما تحتاج إليه لإنهاء المهمّة”.

مشروع “إسرائيل الكبرى” ماضٍ بهمّة

بالنسبة لـ”حماس” الأمر سيّان، فإن رضخت انتهت وإن قبلت انتهت أيضاً. هكذا يصير التهديد الواضح تنصّلاً أميركيّاً من تنفيذ المرحلة الثانية من الاتّفاق الذي كانت واشنطن وسيطاً فيه وتوقّف عند مرحلته الأولى، ودعوة صريحة لنتياهو إلى مواصلة الحرب، ليس فقط في غزة، بل نقلها إلى الضفة أيضاً بذريعة تصفية وجود “حماس” فيها وأيّ مشروع “مقاومة” محتمل في الأراضي الفلسطينية. وبذلك يكون ترامب ضرب عصفورين بحجر واحد: أطلق يد نتنياهو في الضفة،  وأعاد دفع لخطط تهجير الغزّيّين، بعد الرفض الأميركي والإسرائيلي للخطّة المصرية الخاصة بإعادة إعمار القطاع.

إقرأ أيضاً: فضيحة ترامب-زيلينسكي: إنذار إلى حلفاء واشنطن

مشروع “إسرائيل الكبرى” ماضٍ بنشاط وهمّة. حركات المقاومة تلملم جروحها البليغة، ومواصلة القتال تعني المزيد من الدّمار والدم البريء. أمّا المقاومة السياسية والشعبية فلا همّة لديها ولا تزال في خبر كان بلا مدَد عربيّ وبلا رؤية موحّدة.

مواضيع ذات صلة

طارق متري: غزّة تروي قصّة إبادتها بوضوح

خصّصت مجلّة “الدراسات الفلسطينية” عددها الأخير الـ142 الصادر في ربيع 2025 لسبر أغوار مستجدّات الحرب  على قطاع غزة، فلسطينيّاً وإسرائيليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، عبر نشر سلسلة…

فيصل سنّو يعود لمسرح الجريمة.. ماذا قال لبسّام برغوت؟ (2/2)

دخل بسّام برغوت على رئيس جمعيّة المقاصد فيصل سنّو في مكتبه بالجمعية كعادته يومياً، فهو عضو مجلس أمناء الجمعية ومسؤولها المالي ويعتبر من أصدقاء سنّو…

إيران تتمسّك بسلاح أذرعها في التّفاوض… إسرائيل تصعّد

قيل الكثير في أسباب موجة المواقف التي أطلقها “الحزب” رفضاً لمبدأ نزع أو تسليم سلاحه. من التفسيرات الرائجة أنّه يخاطب جمهوره ويرفع من معنويّاته، لكنّ…

الإصلاح التّجميليّ الفلسطينيّ.. وحزب الجمود الوطنيّ

ينبغي أن يبدأ إصلاح الحال الفلسطيني بإصلاح النظام السياسي الذي اضمحلّ وضعف وتشتّت جرّاء الانقسام والجمود والإهمال. كلّ الترتيبات التي يجري الحديث عنها، وأكثر ما…