غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب.
ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال أرضي أو جوّي أو بحريّ.
أما وأنّ الإمداد حتى المدني منه ليس متاحاً، فما يجري على أرض غزة وسكّانها ومقاتليها سلسلة مذابح هي الأكثر فظاعة في تاريخ البشرية الحديث.
حركة حماس، التي تصدّرت مشهد غزة منذ إقامة سلطتها عليها حتى الآن، فُرض عليها أو فرضت على نفسها أن تنتقل وأهل غزة من حربٍ إلى حرب، وهو ما جعل الألم مضاعفاً والحلول بعيدة. وهذا أوصل أهل غزة إلى حالةٍ مزريةٍ من بؤس وشقاء وتعب، وفرض على حركة حماس أثقالاً لا قِبل لها بحملها.
إذا كان بوسعها القيام بمقاومة تحت الأرض وفوقها، وهذا ما فعلته على مدى أكثر من سنة، إلا أنّ ما ليس بوسعها هو توفير مستلزمات حياة لمليونين ونصف مليون إنسان، من أبسط الغذاء والماء والدواء والمأوى.
غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب
ستنشأ “مقاومة أخرى”
معضلة حماس أنّها توغّلت في حربٍ شعارها من اليوم الأوّل إلى اليوم الأخير النصر أو الاستشهاد. ولأنّ النصر بمواصفاته الموضوعية لم يتحقّق، فإنّ الاستشهاد هو لسان الحال، إذ كلّ يوم ترتفع أرقامه بالعشرات والمئات، دون أن يتوقف العدّاد عن العمل ولو ساعة واحدة.
أمرٌ آخر يجسّد معضلة بحدّ ذاته هو أن لا مخرج سياسياً من هذه الحرب، ولا مرجعية دولية لها. وعلى مدى سنة من قتلٍ ودمارٍ وعدم توقّف ولو لأيام لالتقاط الأنفاس، تكرّست مرجعية الحرب، بموازين القوّة وحدها، والذي يقرّر فيها سعي نتنياهو إلى النصر المطلق كنقطة للنهاية. ولأنّ الحصول عليه بات مستحيلاً بقدر استحالة خروج مقاتلي حماس من أنفاقهم رافعي الأيدي طالبين النجاة الشخصية، فإنّ المقتلة ستتواصل واحتلال غزة من جديد سيستمرّ، ولا ضمانة لنتنياهو من أن لا تنشأ مقاومة أخرى.
حين تجد حماس نفسها تحارب وسط شعبٍ يتزاحم على لقمة خبز، فهذا وحده ما يجسّد عمق المأزق، وابتعاد الحلول عبر تسوية فيها بعض تكافؤ.
حليف حماس الأقرب في هذه الحرب وشريك وحدة الساحات هو الحزب الذي يتمتّع بمزايا لا تتوافر لحماس، ولو أنّه لا يحسن الاستفادة منها.
على عكس حماس، فإنّ الحزب هو شريكٌ كاملٌ وعضويّ في النظام السياسي اللبناني. وها هو النظام كلّه يفاوض باسمه، وبوسعه حال التوصّل إلى أيّ اتفاق أن ينسبه كإنجازٍ للبنان، لأنّ الذي سيحلّ محلّ الحزب في الجنوب هو الجيش اللبناني، معزّزاً بإجماعٍ وطنيٍّ وراءه، وبدعمٍ دوليٍّ إضافيّ ٍ لليونيفيل، دون أن يخسر لبنان شبراً من أراضيه، “ولمزارع شبعا فرصة محتملة”.
حين تجد حماس نفسها تحارب وسط شعبٍ يتزاحم على لقمة خبز، فهذا وحده ما يجسّد عمق المأزق، وابتعاد الحلول عبر تسوية فيها بعض تكافؤ
الـ1701.. ومرجعيّة حرب الحزب
ثمّ إنّ لحرب الحزب مرجعية إقليمية مساعدة، وهذا غير متوافر لحماس. ذلك أنّ القرار 1701 يجسّد مرجعيةً أفضل وأسلم من اللامرجعية لحرب حماس، خصوصاً إذا ما تطوّر وقف النار في لبنان إلى سيناريو من ضمنه ترسيم الحدود البرّية.
حرب إسرائيل على الحزب، وامتدادها على جميع جغرافية لبنان، تختلف جوهرياً عن حربها على غزة. فمثلما تربط الحرب على الحزب بتطبيق القرار 1701، وما يمكن أن يليه من ترسيم حدود وخلافه، فهي تمارس عكس ذلك تماماً في غزة. إذ لم تعد الحرب ذات محتوىً حدوديّ وأمنيّ كما كانت تقول في بداياتها. بل تطوّرت لتكون بمنزلة فكّ ارتباط مع أيّ تسوية يقترحها العالم للقضية الفلسطينية.
غزة المدمّرة والمحتلّة معظم أجزائها من جديد والحرب على الضفة التي ترافق العدوان على غزة والتي تجري بالتناوب والتنسيق بين المستوطنين والجيش، يريدها نتنياهو مقبرة لحلّ الدولتين، ولأيّ تسوية لا تراها إسرائيل متطابقة تماماً مع أجندتها التي كانت مضمرة وتحولّت الآن إلى برنامجٍ معلن.
إقرأ أيضاً: ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت
حين تتوقّف الحرب في جنوب لبنان، ستقوم أميركا ومعها من تختار من حلفائها بحماية الإنجاز عبر الذهاب إلى تسوية لبنانية إسرائيلية. أمّا حين تتوقّف الحرب على غزة، فلا تلميح حتى الآن إلى أنّ أميركا جو بايدن أو دونالد ترمب ستنتقل منها إلى تسوية سياسية أساسها قيام الدولة الفلسطينية.
المشترك بين الحربين هو الدمار والدم. والمختلف هو التسويات. والخلاصة… أنّ دوّامة الاحتلال ستستمرّ في فلسطين والمقاومة ستُستأنف، إلى أن يوجد حلٌّ جذري لا يبدو حتى الآن أنّ مقدّماته قيد الإعداد.