اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”. لكنّ الحرب تبقى حرباً بكلّ أثمانها. وتجربة لبنان في الحرب الأهلية خلال عقدَيْ السبعينيات والثمانينيات جاءت بأكلاف بلغت مئتي ألف قتيل وجريح ومفقود. وتبقى ماثلة في الوعي العامّ، أقلّه عند من خبِروها وحملوا آلامها قتلاً وجراحاً وفَقداً.
اليوم تبدّى الجهل اللبناني من البعض بسبب الحرب الإسرائيلية على لبنان منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 التي استدعاها الحزب الذي تصدّع وفقد الدور والوظيفة جرّاءها، وإن كان موجوداً تقنيّاً على مسرح العمليات العسكرية البرّية.
اتفاق الطائف بما هو صيغة مُحدّثة لصيغة الجمهورية الأولى أسقط عمليّاً ونظريّاً كلّ مبرّرات الجماعات الأهلية في الذهاب نحو رفع راية الحرب. لكنّ هذا لا يمنع توتّراً عالي النبرة بين جماعة مسيحية تمثّل وزناً وحيّزاً في دينها، وبين أخرى شيعية هي بالتعريف الحزب، وقد نجحت نجاحاً باهراً في اختزال طائفتها.
اللبنانيّون القلقون
بعد انتهاء الحرب قد تخرج فرقة مسيحية مخاطبة جموع المسلمين من دون تمييز بينهم وبين مذهبهم: نريد أن نقسّم تقسيماً فدرالياً لأنّكم أخذتم البلد منذ الخمسينيات إلى الرئيس جمال عبد الناصر ثمّ باتّجاه منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الرئيس ياسر عرفات (أبو عمّار)، وما لبثتم أن سلّمتم البلد في مطلع التسعينيات إلى سلاح الرئيس حافظ الأسد، وأخيراً جررتم البلد إلى حربٍ أقلّ ما يُقال فيها وعنها أنّها مُدمّرة لبلاد الأرز. وهذا خطاب فيه من الصواب السياسي ما فيه.
الحرب الأهلية هي قرار سياسي. ولا أحد يُراهن على حقبة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لأنّ المرحلة مُختلفة
هذا الخطاب سيُجبه في المقابل بآخر من الحزب الذي اختزل “عموم” الشيعة، ومفاده أنّ اليمين المسيحي أخذ البلد إلى “حلف بغداد”، ومنذ الخمسينيات أيضاً، وهو “حلفٌ” مناقض لهويّة البلد وانتمائه إلى المنطقة والهويّة العربيّتَيْن. ثمّ كان أن استقويتم بأعراف ونصوص والتباسات دستور الجمهورية الأولى إلى أن استعنتم بإسرائيل للاستقواء والغلبة. وهذا أيضاً فيه ما فيه من الصواب السياسي. لكنّ الخطابيْن متناقضان حدّ الانفجار، ووحده الدستور ومقدّمته المعروفة باتّفاق الطائف يُنهيان التعارض إذا ما تمّ إعمال موادّهما.
ثُلاثيّة الكيان اللّبنانيّ
أيضاً لا معنى للبنان خارج ثلاثيّة نهائيّة الكيان وعروبته والعيش الواحد. ذلك أنّ الحرب الأهلية العبثية التي خاض غمارها اللبنانيون وهم يقدّمون مصالح دول عدوّة عند البعض وصديقة عند البعض الآخر، كانت كلّها أهوالاً على حساب اللبنانيين مجتمعين. واتفاق الطائف الذي أنجز مصالحة ومصارحة بين اللبنانيين جاء بنهائية الكيان استجابة للمسيحيين الذين خافوا من ذهاب المسلمين إلى الوحدة مع محيطهم. في المقابل كانت “عروبة” الكيان لطمأنة المسلمين مقابل “فينيقية” و”تغريب” المسيحيين للبلد هويّةً وثقافةً.
أمّا العيش الواحد فلا يعني تنظيم المساكنة بين الطوائف. وهو حتماً كذلك لأنّه يُضعف الجانب الديمقراطي في العقد الاجتماعي. جاء لتعريفنا، ولذلك هو ليس “تنظيم مساكنة” بين الطوائف ضمن تركيبة إدارية تنصّ على كيفية جلوس اللبنانيين مع بعضهم وتعامل بعضهم مع بعض على مستويات السياسة والتجارة والثقافة والمعتقد.
يمنع العيش الواحد على الجميع الخروج على النصوص المرجعية. وهو من ضمن الدستور ومقدّمته المُسمّاة “اتفاق الطائف”. إذاً المشكلة ممكن حلّها عبر وعي سياسي يُنادي بمرجعية اتفاق الطائف والدستور ويتجاوز الموالاة والمعارضة، ويذهب باتّجاه الجميع حتى يمكن تقسيم الحياة السياسية بين منادين بنظام جمهوري وبين آخرين يطالبون بنظام ديمقراطي ـ ليبرالي.
اتفاق الطائف بما هو صيغة مُحدّثة لصيغة الجمهورية الأولى أسقط عمليّاً ونظريّاً كلّ مبرّرات الجماعات الأهلية في الذهاب نحو رفع راية الحرب
القراءات المُضادّة
المهمّ في هذا أن يكون الطرفان مُستنديْن إلى النصوص الدستورية وقرارات الشرعيّتين العربية والدولية. ولا مصلحة للبنان الأهليّ أن يعتبر فريق أنّه بعد انتهاء الحرب صارت الفرصة متاحة للخروج على النصّ الدستوري بمقدّمته ومتنه والذهاب إلى “صيغة أفضل” تتلاءم مع وعيه وتضمن مصالحه على نحو أمثل ممّا فعله اتفاق الطائف.
كما أنّه في المقابل لا مصلحة بوجود فريق آخر يذهب إلى تقويم الحرب الإسرائيلية والتنصّل من نتائجها السياسية لأنّها هي مسؤولة عن استدعاء هجمات القوات الإسرائيلية على لبنان، وأنّ الذي فعل ذلك هو “حزبٌ” اختزل طائفته والحرب وأمعن في سلوك مُغامرة غير محسوبة أفضت إلى ما أفضت إليه.
الحرب الأهليّة قرار سياسيّ
لن تحصل حرب أهليّة في لبنان. الحرب الأهلية ليست قراراً داخلياً فقط. إنّها انعقاد تناقضات الوضع الداخلي على ذاك الخارجي. ولن تكون بسبب تكسير سيّارة في الضنية عليها صورة الأمين العامّ السابق للحزب السيّد حسن نصرالله. ولن تكون لوجود خلاف عقاري في جبيل أو كسروان. الحرب الأهلية هي قرار سياسي. ولا أحد يُراهن على حقبة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لأنّ المرحلة مُختلفة ولم يعد الحزب هو الحدث السياسي الذي تتشكّل من حوله الحياة السياسية بمواليها ومعارضيها.
تاريخٌ مُستعاد وهواجس الطّوائف
انطلقت الحرب في الماضي من اتفاقية القاهرة التي عُقدت عام 1969 وقدّمت سلاح منظّمة التحرير الفلسطينية، وأخّرت سلاح الشرعية الدستورية آنذاك. الحياة السياسية تشكّلت يومها من حول السلاح الفلسطيني بين موالٍ ومعارضٍ، وكلاهما تحاور بالبنادق عام 1975. لم يكن الأمر مهمّاً في ما تريده الحركة الوطنية ولا في ما تريده الجبهة اللبنانية. كانت الأهمّية والقرار عند منظّمة التحرير الفلسطينية.
لن تحصل حرب أهليّة في لبنان. الحرب الأهليّة ليست قراراً داخلياً فقط. إنّها انعقاد تناقضات الوضع الداخلي على ذاك الخارجي
بلغت الأمور الذرى عندما كان يعتزم وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر زيارة لبنان في عام 1973، لكنّ أبا عمّار حذّره مهدّداً من النزول بمطار بيروت، فما كان منه إلّا التوجّه نحو مطار دمشق، وصعد وزير الخارجية اللبناني خليل أبو حمد إلى شتورا لاستقباله. حينها اعتبر المجتمع الدولي أنّه لا توجد لديه جمهورية تستطيع أن تحميه، وبالتالي يجب أن يذهب باتجاه آخر.
ثمّ استمرّ الوضع على ما هو عليه حتى عام 1992، وكان الحدث هو الوجود السوري بلبنان. وهكذا تمحورت الحياة السياسية حول هذا الوجود. إذ إنّ هناك فريقاً وفئات اعتبروا أنّ هذا الوجود بدعم أميركي سيبقى إلى الأبد، فقاموا بعقد اتفاقات مع رجالاته في البلد. في حين أنّ فريقاً وفئات اعتبروا أنّ هذا الوجود يجب أن يزول ويجب مواجهته. لكن لا الموالاة ولا المعارضة كانوا مهمّين. المهمّ كان هذا الوجود السوري.
بعد عام 2005 وإثر اغتيال الرئيس الحريري تشكّلت الحياة الوطنية حول الحزب. الحزب كان المهمّ. لا الذي والى “الحزب” ولا الذي عارضه كان عندهم الثقل السياسي على أهمّيتهم. هذا الوضع خلّف كوارث سياسية، ذلك أنّ الاتّحاد الأوروبي صار يقول إنّ في الحزب جناحين، واحد سياسي وآخر عسكري، ويوجد فرقٌ بينهم. كأنّ الحزب عنده قاصٍ ودانٍ: أي هناك فرق بين رئيس “كتلة الوفاء” محمد رعد، وبين رئيس “الأركان” الراحل فؤاد شكر. تناسى الجميع أنّ هذا الحزب ينجز كلّ أعماله بالبدلة المُرقّطة.
إقرأ أيضاً: العيش مع “الحزب”… ومن دونه؟
ستبرز هواجس الطوائف بعد نهاية الحرب الدائرة حالياً. عند المسيحيين توجد هواجس ويتكلّمون عنها اليوم سرّاً، وغداً ستكون بالعلن. عند الشيعة توجد هواجس أيضاً ولن يتردّدوا في طرحها على طاولة البحث السياسي بعد الحرب. وعند السنّة هواجس ستُحكى. لكنّ القلق من أن يطرح أحدهم إعادة النظر في النظام اللبناني فلا من يستجيب..
لمتابعة الكاتب على X: