لو صدّقت إيران كذبتها فذلك من حقّها. غير أنّ حكاية الآخرين مع تلك الكذبة تستحقّ أن يتأمّلها المرء من غير أن يسبق تأمّلاته بأحكام جاهزة. وإن كان أولئك الآخرون لا ينكرون الحقيقة التي تستند إليها تلك الأحكام لأنّهم مجرّد أتباع لا يملكون الإرادة المستقلّة في رؤية الوقائع واتّخاذ مواقف محايدة منها.
بطريقة ما أرادت إيران أن تردّ الاعتبار لما يُشاع عن قوّتها من خلال عدم الاستمرار في تكرار المعزوفة القديمة حول “الردّ المناسب في الوقت المناسب”. وهي المعزوفة التي لم يتعب النظام السوري من ترديدها كلّما تعرّضت الأراضي السورية لعدوان إسرائيلي.
من حقّ النظام الإيراني أن يسعى إلى أن يثبت أنّه غير عاجز عن الردّ على العدوان الإسرائيلي كما هو حال النظام السوري. فإيران، التي تسعى إلى أن تلعب دوراً محورياً في المنطقة بعدما هيمنت على دول عربية عديدة، ليست سوريا التي يزعم الإيرانيون أنّهم حموا نظامها من السقوط. وهو ما جعل منهم طرفاً في الحوارات التي أقامتها روسيا بحثاً عن حلّ سياسي للأزمة في سوريا.
منذ أن بدأ التدخّل الإيراني المباشر في الحرب السورية وإسرائيل توجّه ضربات إلى الأراضي السورية كان القصد منها تدمير قواعد للحرس الثوري. أو قتل عدد من ضبّاطه الذين يعملون بصفة خبراء أو تفجير مخازن أسلحة إيرانية في محيط مطار دمشق. في كلّ تلك الحالات لم تقُل إيران كلمة على الرغم من أنّها لم تخفِ جنازات ضبّاطها الذين يُقتلون في سوريا عن الإعلام.
بطريقة ما أرادت إيران أن تردّ الاعتبار لما يُشاع عن قوّتها من خلال عدم الاستمرار في تكرار المعزوفة القديمة حول “الردّ المناسب في الوقت المناسب”
سيناريو الثّأر المتّفق عليه
أوهم البعض نفسه بأنّ تلك الضربات لم توجّه إلى أهداف إيرانية بل إلى تجمّعات تابعة للحزب. وإن كان الأمر هو نفسه، غير أنّ الحقائق على الأرض تفيد بأنّ إيران التي نجحت في تنظيم ميليشيات عديدة موالية لها لم تمتنع عن التدخّل المباشر. ذلك ما كان معلوماً لإسرائيل التي لم تتوقّف عن استهداف المنشآت النووية في الداخل الإيراني. وإذا كانت إيران لم تردّ على الخروقات الإيرانية لمنشآتها النووية وتفجير أسلحتها وضرب قواعدها العسكرية في سوريا فإنّها وجدت نفسها محرجة أمام استهداف إسرائيل محيط قنصليّتها في دمشق وقتل واحد من أكبر جنرالاتها والمسؤول عن العمليات القتالية لفيلق القدس في سوريا، وهو ما يؤكّد ما ذهبنا إليه.
لم تستشِر إسرائيل الولايات المتحدة قبل أن تضرب محيط القنصلية الإيرانية في دمشق وتقتل الجنزال زاهدي. لو أنّها فعلت لما حصلت على الموافقة. ذلك لأنّ للولايات المتحدة تجربتها حين قتلت سليماني وسمحت لإيران بعد ذلك بالردّ الذي جاء بعد اتفاق بين الطرفين. وإذا ما كان انتقام إيران قد حدث صوريّاً على الأراضي العراقية ولم يصَب أحد من الجنود في القاعدة الأميركية فإنّ الانتقام هذه المرّة لا بدّ أن يقع في الأراضي الإسرائيلية، وهو ما ينطوي على قدر هائل من الحساسية. ذلك لأنّ إسرائيل على الرغم من قدراتها النووية فإنّ مجتمعها هشّ، ولا يمكنه أن يقاوم الصدمات التي تأتي من الخارج. هو مجتمع خائف يعيش في محيط معادٍ له.
لم تستشِر إسرائيل الولايات المتحدة قبل أن تضرب محيط القنصلية الإيرانية في دمشق وتقتل الجنزال زاهدي. لو أنّها فعلت لما حصلت على الموافقة
حفلة تنكّريّة والعقل غائب
هل يعني كلّ ذلك أنّ إسرائيل كانت قد تورّطت في أمر أكبر من قدرتها حين قتلت زاهدي في محيط القنصلية الإيرانية بدمشق؟ لم تفكّر إسرائيل في اختبار القوّة الإيرانية، فهي تعرف ما الذي تجرؤ إيران على القيام به في ظلّ استحالة انزلاقها إلى حرب شاملة، تفقدها السيطرة على الدول التي احتلّتها، علاوة على أنّ تلك الحرب قد تكون سبباً في سقوط النظام المكروه داخلياً. لذلك كانت مطمئنّة إلى أنّ الانتقام الإيراني سيكون في حدود مقبولة، غير أنّ ما حدث كان مفاجئاً لإسرائيل نفسها.
ما فعلته إيران لم يكن سوى حفلة تنكّرية. ما وصل من مسيّراتها وصواريخها إلى الأراضي الفلسطينية لم يُحدث أيّ أثر يُذكر. أمّا ما لم يصل فقد كان ينطوي في الجزء الأكبر منه على حكايات فكاهية. فبعض الصواريخ والمسيّرات لم ينطلق أو سقط على الأراضي العراقية أو أُسقط في المجال الجوّي الأردني. وكان متوقّعاً بعد تلك الحفلة أن تُعلن القيادة العسكرية الإيرانية أنّها حقّقت أهدافها. ولكن لِمَ لم يتساءل أحد من التابعين لإيران عن تلك الأهداف، وقد امتنعت إيران عن ذكرها؟ يعود ذلك إلى قوّة وعمق غسل الدماغ الذي تعرّضوا له. فهم مؤمنون بإيران حتى لو كانت “لا ترد إلاّ في الوقت المناسب”!!
إقرأ أيضاً: مقتدى الصدر في آخر استعراضاته المجّانيّة