كلّ الأجواء التي بثّها إعلام المُمانعة في الأسابيع الأخيرة حول طريق بشّار الأسد المفروش بالورود نحوَ جامعة الدّول العربيّة، وكلّ تحليلات التّمنّي التي بشّرَت بعودة سوريا لاعباً إقليميّاً له أدوارٌ لا تبدأ في بيروت ولا تنتهي في الخليج، قد تذهب أدراج الرّياح. فلا الأسد سيعود إلى جامعة الدّول العربيّة، والفالق العربيّ – العربيّ حول التّطبيع معه قد تكون تردّداته أقوى من زلزال السّادس من شباط.
بعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في شباط الماضي، ظهرَ صدعٌ في الفالق الذي كان يعزُل بشّار الأسد. طار رئيس النّظام نحوَ العاصمة العُمانيّة مسقط، وبعدها حطّ رحاله في العاصمة الإماراتيّة أبو ظبي. وبين الزّيارتَيْن، كانت دمشق تستقبل وزراء خارجيّة الإمارات عبدالله بن زايد، ومصر سامح شُكري، والأردن أيمن الصّفدي.
دعوة سوريا وليسَ “القيادة”
يكشف مصدرٌ عربيّ واسع الاطّلاع أنّ الرّياض وأبو ظبيّ اقترحتا في الاجتماع الوزاريّ الذي عُقِدَ الأسبوع الماضي في جدّة “دعوة سوريا” إلى القمّة، وليسَ القيادة السّوريّة، في مُحاولة لإيجاد ثغرة في هذا الملفّ. قد يشهدُ الاجتماع المُقبل في العاصمة الأردنيّة عمّان توسّعاً في بحثِ هذا الاقتراح الذي لم يلقَ مُعارضة واسعة في الاجتماع الوزاريّ.
ترجمة هذا الاقتراح أن يترأسَ وزير الخارجيّة السّوري فيصل المقداد وفد سوريا في القمّة العربيّة.
يكشف مصدرٌ عربيّ واسع الاطّلاع أنّ الرّياض وأبو ظبيّ اقترحتا في الاجتماع الوزاريّ الذي عُقِدَ الأسبوع الماضي في جدّة “دعوة سوريا” إلى القمّة، وليسَ القيادة السّوريّة
لأوّل مرّة منذ 2011، وصلَ وزير الخارجيّة السّعوديّ الأمير فيصل بن فرحان إلى دمشق، للقاء رئيس النّظام بشّار الأسد، بعد أسبوعٍ من زيارة فيصل المقداد إلى جدّة ولقائه نظيره السّعوديّ.
وكانَ لافتاً إعلان صحيفة “القبس” الكويتيّة أنّ وزير الخارجيّة الكويتي سيزور دمشق الخميس، لتعود وتحذفه، وتُصدر وزارة الخارجيّة نفياً للخبر.
نصيحة عُمان.. الحوار الأمنيّ
بين أسطر الحراكات العربيّة، كان الأسد يتلقّى نصيحةً عُمانيّة للحوار الأمنيّ مع الولايات المُتحدة. ففي مسقَط كان للأسد لقاءٌ مع السّلطان هيثم بن طارق آل سعيد. وبحسبِ معلومات “أساس”، فإنّ السّلطان هيثم نصَحَ الأسد بضرورة إعادة تنشيط خطوط التّواصل الأمنيّ مع واشنطن. وكانت مسقط استضافت بعض جولات هذا التواصل قبل أشهر بين عناصِر من الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة (CIA) وضُبّاطٍ من استخبارات النّظام السّوريّ.
تمحورت اللقاءات حينذاك حولَ مصير الصّحافيّ الأميركيّ المفقود في سوريا أوستن تايس، الذي كادَ ملفّه يُغلَق أواخر عام 2020، لولا أن أطلقَ الرّئيس الأميركيّ السّابق دونالد ترامب تصريحاً عن تخطيطه لاغتيال الأسد في وقتٍ سابق.
لم يُعارض الأسد المطلب العُمانيّ، وطلبَ من السّلطان هيثم بن طارق أن تقوم بلاده بالإعداد لجولة مُحادثات جديدة قد تُعقَد قريباً على أراضي السّلطنة.
يُدرِكُ الأسد أنّ ملفَ أوستن تايْس يُشكّل أولويّة لدى الإدارة الأميركيّة، وقد يسعى إلى الضّغط مُجدّداً عبره للحصول على تنازلات أميركيّة، خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات الرّئاسيّة الأميركيّة.
في عاصمة القرار، لا يبدو أنّ الإدارة الأميركيّة الدّيمقراطيّة مُتحمّسة. يقول مصدرٌ في وزارة الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس” إنّ واشنطن تجدُ صعوبةً في مسألة التّطبيع مع الأسد، خصوصاً أنّ الحرب الأوكرانيّة زادت هذه المسألة تعقيداً بسبب مواقف دمشق المُنحازة تماماً إلى موسكو. لكنّها في الوقت عينه، قد لا تُمانع التّواصل إن كانَ مُفيداً لكشف مصير أوستن تايس، لكن على النّظام أن لا يُعوّل على مسألة رفع العقوبات أو الانسحابِ من سوريا، فهذا قد كانَ وارداً في آخر أيّام إدارة ترامب، لكنّه ليسَ مُتاحاً لدى الإدارة الحاليّة.
بدا لافتاً أنّ الإدارة الأميركيّة خفّفَت من لهجتها تجاه الدّول العربيّة التي تُطبّع مع النّظام السّوريّ. بحسب عارفين بالنّظام السّوريّ
في الوقتِ نفسه، بدا لافتاً أنّ الإدارة الأميركيّة خفّفَت من لهجتها تجاه الدّول العربيّة التي تُطبّع مع النّظام السّوريّ. بحسب عارفين بالنّظام السّوريّ، فإنّه يُراهن على أنّ جعل التّطبيع أمراً واقعاً قد يدفع الولايات المُتحدة إلى إعادة تقويم سياستها تجاه دِمشق لئلّا تتعكّر علاقتها بالدّول العربيّة، خصوصاً السّعوديّة والإمارات، في وقتٍ تحتاج إدارة بايدن إلى تحسين علاقاتها بالرّياض وأبو ظبيّ مع دخول الصّين وموسكو إلى ما تعتبره مجالها السّياسيّ التّاريخيّ في الشّرق الأوسط، أي الخليج.
تتعقّد المسارات التي يسيرُ فيها التّطبيع مع الأسد. لكنّ الثّابتَ الوحيد أنّ دمشق تجاوزَت مسألة تغيير النّظام نحوَ تعديل سلوكه.
مناورات الأسد وتردّده
تُناوِر دمشق بين المسارَيْن العربيّ والتّركيّ، وبيْنَ حليفتَيْها موسكو وطهران اللتين تُشجّعانها على إتمام التطبيع مع جارتها الشّماليّة تُركيا بالتّوازي مع التّطبيع الثّنائيّ مع الدّول العربيّة.
لا تُمانع دمشق التطبيع مع الدّول العربيّة كلٌّ على حدة. ولم تُبدِ حماسةً للعودة إلى جامعة الدّول العربيّة، فهذا يعفيها من تقديم تنازلات قاسية، أو مواجهة لائحة شروطٍ لا يرغَب أركان النّظام في مواجهتها.
يسمحُ أيضاً هذا النّهج للنّظام بمُناورة العقوبات الغربية التي تبدأ في عاصمة القرار واشنطن، ولا تنتهي بالعاصمة البريطانيّة لندن، وبينهما دُوَل الاتحاد الأوروبيّ التي بات رأيها يميل نحوَ تليين الموقف من النّظام السّوريّ. وهذا ما قد يدفع الأسد إلى إعادة تفعيل التّواصل مع الأميركيين بناءً على نصيحة سلطنة عُمان.
انقسام عربيّ
في مدينة جدّة السّعوديّة التي استضافت الأسبوع الماضي اجتماعاً لوزراء الخارجيّة العرب كان الملفّ السّوريّ هو الحاضرَ الأبرز.
تحتاج عودة سوريا إلى الجامعة العربيّة إلى إجماعٍ عربيّ. بدا هذا الإجماعُ بعيداً مع مُعارضة مصر وقطر واليمَن والكويت والمغرب هذه العودة. اتّفقَ الحاضرون على عقد اجتماعٍ آخرَ في العاصمة الأردنيّة عمّان الأسبوع الجاري لاستكمال بحث الأزمة السّوريّة.
تتسلّح الدّول الـ5 المُعارضة لهذه العودة بموقفٍ يقول إنّ على النّظام السّوريّ أن يُقدِّمَ مُقابلاً دستوريّاً يُعوّض دماء الشّعبِ السّوريّ ومأساة تهجيره، ويتيحُ مُشاركة المُعارضة السّوريّة في السّلطة قبل عودة النّظام إلى الجامعة. بكلامٍ آخر، تدعم هذه الدّول فرض شروطٍ والحصول على تنازلات دستوريّة من النّظام مُقابل العودة إلى جامعة الدّول العربيّة.
من جهته، يعترض المغرب لأسبابٍ تتعلّق بأمنه الوطنيّ وبدعم إيران لجبهة البوليساريو الانفصاليّة. أمّا حكومة اليمن المُقطّعة أوصاله بدعم من إيران حليفة سوريا وحزب الله، فيُعارض هذه العودة لأسبابٍ تتعلّق بوضعه الدّاخليّ.
علاوة على ذلك، لا تُريد الدّول الـ5 هذه أن تُعكّر صفو علاقاتها بالولايات المُتحدة التي لا تزال تُعارض تطبيع أيّ دولةٍ مع النّظام السّوريّ.
في الوقتِ عينه، تقول الدّول الدّاعمة لهذه العودة إنّ على الدّول العربيّة تقديم حوافزَ لدمشق لإعادتها إلى الحضنِ العربيّ. وهو ما يعني أنّ النّقاش كان محصوراً بما إذا كان ينبغي للدول العربية تقديم حوافز مسبقة لدمشق مقابل التطبيع العربي أو وضع شروط مسبقة أوّلاً.
تحتاج عودة سوريا إلى الجامعة العربيّة إلى إجماعٍ عربيّ. بدا هذا الإجماعُ بعيداً مع مُعارضة مصر وقطر واليمَن والكويت والمغرب هذه العودة
بحسب المعلومات، فإنّ المملكة العربيّة السّعوديّة ودولة الإمارات تُشجّعان عودة سوريا إلى الجامعة قبل القمّة العربيّة المُزمَع عقدها في المملكة بعد شهرٍ من اليوم. وهذا يشير إلى أنّ الاجتماعات الوزاريّة العربيّة قد تتكثّف قبل القمّة في محاولة لإيجادِ حلّ لمُعضلة مشاركة سوريا في القمّة.
في سياق هذا الانقسام العربيّ، يستمرّ النّظام بمسار التّطبيع الثّنائي الذي يُجنّبه تقديم “تنازلات كُبرى”.
تركيا.. جدولة الانسحاب من سوريا مؤجّلة
مسار التّطبيع يصل إلى تركيا. وجَدَت دمشق في التطبيع الثّنائي مع الدّول العربيّة فرصةً للمناورة في مواجهة أنقرة. وكانت العاصمة الرّوسيّة موسكو استضافت مطلع الشّهر الجاري اجتماعاً على مستوى مُساعدي وزراء الخارجيّة لكلّ من تركيا وسوريا وإيران وروسيا.
يقول مصدرٌ دبلوماسيّ تُركي لـ”أساس” إنّ بلاده ترغَب في الانسحاب من سوريا، وإنّها لا تريد البقاء هُناك إلى الأبد. جاءَ كلام الدّبلوماسيّ التّركيّ في معرِض سؤاله عمّا إذا كانت تُركيا تنوي الانسحاب من شمال سوريا.
في الوقت عينه، يقول مصدرٌ دبلوماسيّ روسيّ إنّ الاجتماع الرّباعيّ شهِدَ تمسّكاً سوريّاً بضرورة حصول دمشق على جدولٍ زمنيّ من تركيا للانسحابِ من الشّمال قبل أيّ لقاءٍ بين الرّئيس السّوريّ بشّار الأسد والرّئيس التّركيّ بعدَ الانتخابات الرّئاسيّة التّركيّة الشّهر المقبل. وقد تلقّت دمشق وعداً تركيّاً بجدولة الانسحاب بعد الانتخابات.
إقرأ أيضاً: التطبيع مع الأسد: وقف الكبتاغون.. أم الحلّ السياسي؟
تُراهنُ دمشق على حاجة الرّئيس التّركيّ رجب طيّب إردوغان إلى تطبيع العلاقات معها لحلّ أزمة اللاجئين السّوريين التي باتت عنواناً “مُحرجاً” ترفعه المُعارضة في وجهه. فهو يواجه أقسى انتخاباتٍ رئاسيّة في تاريخه، إذ لم يحسم هذا السّباق باكراً كما جرَت عادته. وهذا يُفسّر تباطؤ النّظام في السّيرِ نحوَ أنقرة التي تُهروِل تجاهه منذ الصّيف الماضي.
لن يجدَ النّظام السّوريّ صعوبةً في التّواصل مع زعيم المُعارضة كمال كليتشدار أوغلو الذي لم يقطَع تواصله يوماً مع النّظام السّوريّ، وكان آخر هذا التواصل رسالة تعزيةٍ أرسلها إلى الأسد عقبَ الزّلزال الذي ضربَ تركيا وشمال سوريا.
بكلامٍ آخر يعتبر النّظام نفسه رابحاً أيّاً كان الفائز في الانتخابات التّركيّة، وهو ليسَ على عجلةٍ من أمره.
لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@