لا اعتكاف. حَسَم أمره رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بعد وقت مُستقطَع قضاه يوم الثلاثاء في مكتبه الخاص في ستاركو، فانتقل مجدّداً أمس إلى السراي بـ “أجندة” مُستجدّة صوّب فيها مباشرة على “شركائه” في الحكومة، وافتتحها بلقاء مع السفير السعودي وليد البخاري: “اعتماد نمط جديد في التعاطي الحكومي على قاعدة أنّ الجميع شركاء في المسؤولية ولا يمكن رمي الأمور كلّها على رئيس الحكومة، فيما الأطراف الأخرى المعنيّة، ومنها المُشارِكة في الحكومة تَرسم أجنداتها الخاصة من دون الأخذ بالاعتبار التماسك المطلوب في هذه المرحلة. لا استخدام لموقع رئاسة الحكومة كمتراس يتلطّون خلفه لتنفيذ “أجندات وحسابات خاصة”، على غرار ما حصل في محطات سابقة وآخرها موضوع التوقيت”.
لسان حال نائب طرابلس السابق: “تُرِكتُ وحيداً”. تقول أوساط رئاسة الحكومة لـ “أساس”: “لن يَقبل رئيس الحكومة “القواص” عليه بعد الآن من داخل الحكومة وخارجها ضمن إطار سياسة المزايدات. بالمقابل لا اعتكاف ولا انسحاب، وتصريف الأعمال سيحصل بدءاً من الآن وفق خارطة يحدّدها رئيس الحكومة لا يكون من خلالها صندوق بريد تمرّ عبره القرارات والرغبات، ولا تكون وفق سياسة: “مِنكبّها على رئيس الحكومة ثمّ نتمايز عنه ونتفرّج”.
يؤكّد مطّلعون في هذا السياق أنّ الأمور”لم تقطع” مع ميقاتي بعدما اجتهد وزير التربية عباس الحلبي المحسوب على وليد جنبلاط وعاكس قرار رئيس الحكومة في ما يخصّ تجميد العمل بالتوقيت الصيفي ووضعه أمام أمر واقع.
مصادر وزير الداخلية بسام المولوي لـ “أساس”: على الرغم من كلّ الغبار المُرافق لمسار الانتخابات البلدية سيلتزم وزير الداخلية بما يفرضه قانون الانتخابات البلدية لجهة دعوة الهيئات الناخبة خلال مهلة الشهرين اللذين يسبقان نهاية ولاية المجالس البلدية
تضيف الأوساط: “إذا اعتكف رئيس الحكومة في ظلّ شغور رئاسي وتعطيل نيابي للجلسات ولم يوقّع أيّ قرار، ماذا سيحدث؟ وهل المطلوب تقويض بنيان الدولة المتهالك فيما رئاسة الحكومة هي الحصن الأخير في هيكل الدولة؟ وهل يظنّ من يهاجِم ميقاتي أنّ الفريق الذي يُمثِّله رئيس الحكومة سيظلّ صامتاً؟ وهل الحملة على رئاسة الحكومة بريئة وفق المعادلة اللبنانية القائمة”، مشيرة إلى أنّ مواقف “ميقاتي الأخيرة قد تكون الأكثر تحفيزاً على كسر حالة المراوحة من خلال الدفع باتجاه انتخاب رئيس الجمهورية”.
بلديّات ورواتب
كُرتا نار سيتلقّفهما ميقاتي مع إعادة تشغيله لمحرّكات حكومة تصريف الأعمال في ظلّ أزمة الثقة مع “شركائه”: الانتخابات البلدية والزيادات لموظفي القطاع العام.
وفق معلومات “أساس” لا جلسة حكومية هذا الأسبوع، والأرجح ستتمّ الدعوة إليها الأسبوع المقبل و”الأمر قيد البحث”، وفق أوساط حكومية.
ينأى ميقاتي بنفسه عن أيّ دور للحكومة في تمويل الانتخابات البلدية المجهولة المصير حتى الآن. في العلن يُجاهِر بتحمّسه لإتمام الاستحقاق في موعده، وفي السرّ “همّ بالناقص ومش وقتها”.
الداخليّة “ماشية”
أمّا مصادر وزير الداخلية بسام المولوي تؤكّد لـ “أساس”: “على الرغم من كلّ الغبار المُرافق لمسار الانتخابات البلدية سيلتزم وزير الداخلية بما يفرضه قانون الانتخابات البلدية لجهة دعوة الهيئات الناخبة خلال مهلة الشهرين اللذين يسبقان نهاية ولاية المجالس البلدية. وهذه الدعوة منفصلة تماماً عن صدور مرسوم تمويلها لأنّها تصدر بقرار عن الوزير حصراً”، مشيرة إلى أنّه “بحسب تواريخ مواعيد إجراء الانتخابات على مدى أربعة أسابيع سيتمّ نشر الدعوة بحيث لا تقلّ الفترة الزمنية الفاصلة ما بين تاريخ النشر وموعد الانتخابات عن الثلاثين يوماً”.
هكذا سيكون ضغط المولوي على القوى السياسية من خلال دعوته الهيئات الناخبة سبباً لزيادة تأجيج “معركة التمويل” التي ستتحوّل تدريجاً إلى “لُغمٍ” تزرعه القوى نفسها لتطيير الانتخابات البلدية.
لغم التأجيل
في الوقائع، أوّل مكوّنات تحضير “قنبلة” التأجيل للمرّة الثانية على التوالي تجلّى من خلال عدم لحظ موازنة عام 2022 الاعتمادات المطلوبة للانتخابات البلدية، فيما موازنة 2023 لم تُقَرّ بعد. المخرج “الشكليّ” أتى من خلال تقديم النائب علي حسن خليل اقتراح قانون لفتح اعتماد في موازنة 2022 بقيمة 1,500 مليار ليرة لتغطية نفقات الانتخابات. وهو البند الذي تأجّل البحث فيه في اللجان النيابية المشتركة بعد تحوّل جلستها الأخيرة إلى “ساحة حرب”، فيما لا يزال في علم الغيب نصابُ الجلسة التشريعية التي قد يدعو إليها الرئيس برّي لحسم مصير الانتخابات، سواء بتأمين التمويل أو التمديد للمجالس البلدية.
يؤكّد مطّلعون أنّ الأمور”لم تقطع” مع ميقاتي بعدما اجتهد وزير التربية عباس الحلبي المحسوب على وليد جنبلاط وعاكس قرار رئيس الحكومة في ما يخصّ تجميد العمل بالتوقيت الصيفي ووضعه أمام أمر واقع
يُذكر أنّه بالتزامن مع تأجيل “البلديات” صيف 2022 وَعَدت حكومة ميقاتي أنّها ستقرّ قانوناً عصريّاً للبلديات يلبّي طموحات اللبنانيين في مجال الإنماء المتوازن ويراعي أعلى المعايير الدولية، وستحيله إلى اللجان النيابية.
من أين التمويل؟
يُحاصَر رئيس الحكومة حالياً من قبل قوى سياسية ومعارِضة لإنجاز الانتخابات “بالموجود” وتأمين حكومته تمويل “البلديات” من خلال:
– إقرار مجلس الوزراء نقل الاعتماد المطلوب من احتياطي الموازنة بموجب مرسوم إلى وزارة الداخلية.
– قبول حكومته المساعدة المالية المقترحة من الاتحاد الأوروبي أو من خلال تأمين الاعتمادات المطلوبة عبر حقوق السحب الخاصة.
وفيما طالب نواب في المعارضة خلال جلسة اللجان النيابية بتأمين التمويل عبر حقوق السحب الخاصة، وهو ما أدّى إلى اشتعال الجلسة على خلفية الاحتقانات الكامنة في النفوس، تناسى معارضو ومؤيّدو الطرح أنّ حكومة ميقاتي موضوعة في قفص الاتّهام بالتفريط بأموال حقوق السحب التي حوّلها صندوق النقد الدولي إلى لبنان في أيلول 2021. فعلى الرغم من القرار الصادر عن مجلس الوزراء في 14 نيسان 2022 بـ “عدم صرف أيّ أموال من حقوق السحب الخاصة إلّا بعد موافقته”، لكنّ ميقاتي، وفق العارفين، لم يتوانَ عن تبديد حقوق السحب الخاصة البالغة 1.139 مليار بلا أيّ خطّة أو رؤية واضحة قافزاً في كثير من الأحيان فوق مجلس الوزراء بتوقيعه موافقات استثنائية على الصّرف من “حقوق السحب” من دون أيّ استفادة للقطاعات الإنتاجية المفترض أن تأتي على رأس قائمة المستفيدين.
وفق مصدر مطّلع أُهدِر حتى الآن بين 750 و800 مليون دولار من قيمة هذه الأموال من دون خارطة حكومية منطقية لأوجه الصرف.
أمّا لناحية جلسة “القطاع العام” فلا موعد محدّداً لها بعد، فيما يستعدّ موظّفوه لقبض رواتبهم على منصّة صيرفة على سعر 90 ألف ليرة بعدما كانت تُسحب سابقاً على 45 ألفاً. هذا الواقع سيؤدّي إلى “عصر” رواتب موظفي الدولة لتراوح بين 50 دولاراً و230 دولاراً شهرياً.
إقرأ أيضاً: آخر أيّام ميقاتي في السراي…
قد تتّجه حكومة ميقاتي لإقرار مزيد من الزيادات، لكن فعلياً من دون إيرادات في ظلّ جباية متعثّرة في مقابل واقع مكرّر: إمّا طبع مزيد من العملة الوطنية أو صرف ما بقي من أموال المودعين.
هي جولة حكومية جديدة من الترقيع المالي الذي قد لا يُهدّئ روع الشارع ولا يشفي غليل الموظفين. يقول مصدر معني لـ “أساس”: “نحن في حالة انهيار تامّ يفترض حصول إجراءات عاجلة واستثنائية. لكنّ الحكومة وضعت جانباً كلّ الإجراءات المطلوبة والملحّة التي تؤدّي إلى استقرار الوضع النقدي والمالي الذي ممرّه الأساس الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وذهبت نحو زيادة الرواتب في سياق شعبوي سيؤدّي بطبيعة الحال إلى تآكل الزيادات مرّة جديدة. وفي مقابل شحّ الإيرادات، هم يَصرفون ما بقي من أموال المودعين، وهو ما يهدّد فعليّاً مشروع استرجاع أصحاب ودائع ما دون الـ 100 ألف دولار ودائعهم”.
يضيف المصدر: “مرّث ثلاث سنوات من التضييع المقصود للحلول بتجاهل إقرار الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف وهيكلة المالية العامّة، التي كانت ستمهّد لاستقرار سعر الصرف وتوحيده، وبالتالي استقرار القدرة الشرائية، وحينها يُصبح لأيّ زيادة على الرواتب قيمة فعليّة، لكن الآن ستتبخّر الزيادات تلقائياً، وهم يجرّبون المجرّب لإيصالنا إلى النموذج الفنزويلي”.
لمتابعة الكتاتب على تويتر: MalakAkil@