تعود المصارف إلى الإضراب اليوم، ويبدو أنّ إضرابها هذه المرّة لن يكون كما سبق. معالم التصعيد والغضب واضحة في البيانات الصادرة عن جمعية المصارف، التي دعت إلى وجوب “تصحيح الخلل” في بعض القرارات القضائية “التعسّفية والانتقامية” بحقّها. أمّا أمينها العام فادي خلف فسبق أن كشف أنّ المصارف “لا سيولة لديها لتلبية طلبات المودعين”. كلّ هذا والسلطة السياسية غائبة أو مغيّبة، تشتري الوقت وتقذف بالمواعيد إمعاناً في لعبة “شراء الوقت”… علّ الوقت يسعفها في التملّص من مسؤوليّاتها فتخرج من الأزمة بلا أثمان تُدفع.
“أساس” حاور المدير العام لمصرف “سيدروس”، وزير الاقتصاد الأسبق رائد خوري، الناشط على خطّ التنسيق بين المصارف والسلطة السياسية. وفي الحديث محاولة لاستطلاع وجهة نظر المصارف حيال عودة الإضراب وسبل حلّ الخلاف مع القضاء، إضافة إلى مواضيع مصرفية أخرى تتعلّق بالنظرة إلى الحلّ… فكان هذا الحوار.
عملياً يمكن القول إنّ المصارف متروكة أمام هجمة القضاء غير المبرّرة. أمّا السبب فيعود إلى السلطة السياسية التي لم تقُم بواجباتها حتى اللحظة
*لماذا عادت المصارف إلى الإضراب اليوم؟
– عدنا إلى الاضراب لأنّ حلّ الأزمة أو ما يطلق عليه الـSystematic Risk لم يتوفّر بعد.
عملياً يمكن القول إنّ المصارف متروكة أمام هجمة القضاء غير المبرّرة. أمّا السبب فيعود إلى السلطة السياسية التي لم تقُم بواجباتها حتى اللحظة. لم تتقدّم الحكومة باقتراحات القوانين، بينما مجلس النواب هو الآخر يتقاعس عن سنّ التشريعات اللازمة، ومنها قانون الـ”كابيتال كونترول” الذي يذهب ويعود من الأدراج إلى اللجان منذ سنوات، وكذلك القوانين الخاصة باستعادة التوازن المالي، وقانون فصل الدولار الفريش عن اللولار…
في ظلّ هذا التقاعس، يقرأ بعض القضاة النصوص القانونية ويفسّرونها وفق ما يرتأونه ويطبّقونها على المصارف، في غياب “خطة وطنية” واضحة لتوزيع المسؤوليات عن الأزمة وتوزيع الخسائر. وبما أنّ الدولة هي “الأب الصالح” الذي تخلّى عن واجباته في مجال التشريع، تُركت المصارف في وجه القضاء، وهذا طبعاً أمر غير صحّي على الإطلاق. فلا يجوز أن يحكم القضاء بدفع وديعة بالدولار الفريش، ثمّ يقوم في الوقت نفسه بالحكم لصالح مودع آخر بقانونية تسديد القرض الذي استدانه من المصرف، بشيك مصرفي أو على تسعيرة الـ1,500 ليرة. وهذا حال عشرات مليارات الدولارات التي أُجبرَت المصارف على أن تقبضها بتسعيرة 1,500 بدل الدولار الفريش، منذ 2019، ثمّ 15 ألفاً بعد تعديل سعر الصرف الرسمي. هكذا فإنّ وحدة المعايير غائبة كليّاً، والأمور متروكة لتقدير هذا القاضي في لبنان أو ذاك في تلك الدولة.
لنذهب إلى ما حصل في الولايات المتحدة خلال اليومين الماضيين. فهو درس لا بدّ أن نأخذ العبر منه. رأينا كيف اتخذت السلطات النقدية في البلاد إجراءات سريعة في “الويك إند”، ووضعت الإجراءات المطلوبة لمحاصرة تداعيات إفلاس مصارف كبرى، وأخرى على الطريق.
أفهم أنّ واشنطن تملك إمكانيات مختلفة، وتفوقنا في قدراتها وتنظيمها، لكنّنا كنّا قادرين على اتخاذ إجراءات مشابهة منذ اللحظة الأولى للأزمة، وكان هناك فرصة لحماية أموال المودعين والمصارف على السواء منذ 2019 و2020. وكنّا أعفينا أنفسنا من الوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم.
أمّا المطلوب اليوم فيُختصر اليوم بخلاصة بسيطة: على كلّ طرف أن يتحمّل مسؤوليّته في الأزمة، فالاستمرار بالوضع على هذا النحو ومواصلة القضاء وفق هذا السياق سيدفعان بعض المصارف نحو إعلان إفلاسها، وهذا طبعاً لن يتضرّر منه إلا المودعون. الدولة تخلّفت عن سداد دينها للمصارف، يعني أنّها تخلّفت عن سداد ما لنا في ذمّتها من أموال للمودعين، محاولةً التهرّب والتملّص من المسؤولية، ونحن نتحمّل جزءاً من المسؤولية، كذلك المودع. اليوم الخسائر يتحمّلها المودع والمصارف فقط، والدولة تتملّص من مسؤوليتها، وهي المسؤولة الكبرى عن تضييع أموال المودعين والمصارف على حدّ سواء.
* المصارف تضغط على السلطة السياسية من خلال الإضراب، ألا يعني هذا الطلب التدخّل بعمل القضاء؟
– لا يمكن توصيف الأمر على هذا النحو. القضاء يسير وفق القوانين المرعيّة الإجراء، لكنّ في الوقت نفسه السلطة السياسية تتهرّب من حلّين:
أولاً، تتقاعس عن القيام بواجباتها.
ثانياً، ترفض أن ترسي نوعاً من التفاهم المؤقّت مع السلطة القضائية إلى حين بتّ التشريعات المطلوبة.
يقرأ بعض القضاة النصوص القانونية ويفسّرونها وفق ما يرتأونه ويطبّقونها على المصارف، في غياب “خطة وطنية” واضحة لتوزيع المسؤوليات عن الأزمة وتوزيع الخسائر
لذلك السلطة مطالبة بالاختيار بين بتّ التشريعات سريعاً، أو التنسيق مع مجلس القضاء الأعلى من أجل أخذ أزمة القطاع المصرفي بعين الاعتبار، وليس النظر إلى كلّ دعوى على أنّها حالة منفردة، بينما الحقيقة أنّنا أمام أزمة قطاع مصرفي كامل… أزمة وطنية عامة تمتدّ جذورها إلى عشرات السنين، وأسبابها سياسات الحكومات المتعاقبة.
يمكن لمجلس القضاء الأعلى أن يتدخّل بأن يرسم توجيهات عامة للجسم القضائي، توجيهات ظرفية إلى حين بتّ التشريعات، خصوصاً أنّ الأزمة تخصّ 1.5 مليون مودع. ما هو مطلوب من القضاء هو توحيد المعايير. فليحكم في كلّ الدعاوى بالتساوي، إمّا بالدولار “الفريش” في كلّ الوقت وفي كلّ الدعاوى، أو على السعر الرسمي 15 ألفاً. وهنا لا نوجّه لومنا كمصرفيين للقضاة، فهم في نهاية المطاف يقومون بواجباتهم ويحكمون وفق القانون، لكنّ هناك سلطات قضائية عليا تفوقهم تراتبية، وهناك الحكومة، وهناك مجلس النواب… الإضراب هدفه الضغط على هؤلاء، مع العلم أنّ المصارف غير مرتاحة لاستمرار الإضراب على الإطلاق، لأنّه يؤثّر على سمعتها ويجلب لها الضرر، كما لكلّ المودعين، لكن ما هو الحلّ المتوافر بخلاف ذلك إن كانت السلطة السياسية لا تستجيب لدعوات المصارف؟
*هل يعني هذا أنّ الوساطة التي قام بها الرئيس ميقاتي أخيراً قد فشلت؟
– لا معلومات لديّ إن كانت المبادرة فشلت أم لا، لكنّ الحكم الذي صدر قبل أيام بحق “بنك البحر المتوسط” بإلزامه بدفع وديعة بقيمة 228 ألف دولار لمودع في دبي، لا يصبّ في سياق تلك الوساطة أو التفاهمات، ولا حتّى وحدة المعايير التي نتحدّث عنها. أمّا استمرار الإضراب واحتمال تصعيده فمتروكان لمجالس إدارات المصارف وجمعية المصارف. اجتماعاتهم مفتوحة حالياً من أجل الوصول إلى حلّ. ما نقوم به اليوم هو محاولة التوفيق بين استمرار الضغط على السلطة السياسية، وبين تسيير مصالح الناس… فكيف ستتطوّر الأمور على الأرض؟… هذا عائد إلى كلّ مصرف على حدة.
*ألا تملك المصارف السيولة لإعادة أموال المودعين؟
– واضح أنّ السلطة تريد شطب أموال المصارف وأموال المودعين. وبالتالي ما قصده المدير العام لجمعية المصارف في بيانه هو أنّ توظيفات المصارف تتركّز لدى 3 جهات: المصرف المركزي نفسه، الدولة، والقطاع الخاص على شكل قروض.
من هنا يمكن القول إنّ المصارف تملك “الملاءة”، لكنّها لا تملك “السيولة”، والسبب أنّ الأطراف الثلاثة غير قادرة على ردّ ديونها بالعملة التي اقترضت بها، أي بـ”الفريش دولار”. ومن هنا أيضاً فإنّ المصارف لن تتحصّل على السيولة إلا إذا تعهّدت الدولة (الحكومة ومصرف لبنان) بدفع ما هو مترتّب عليها من ديون لصالح المصارف، وبالتالي لصالح المودعين.
بخلاف ما يحاول البعض الترويج، فإنّ كلّ ما تملكه المصارف من ملاءة وأموال، قد لا يتعدّى 4 أو 5 مليارات دولار على سعر الصرف الحالي، وهذا واضح في موازنات المصارف، والأرقام منشورة ومعلنة
*هل فعلاً هناك مصارف قادرة على “التغريد خارج السرب”، وبالتالي قادرة على إرضاء المودعين من خارج إجماع المصارف أو من خلال “قرار موحّد” يصدر عن جمعية المصارف؟
– الأزمة كبيرة لدرجة أنّها تفوق قدرة أيّ مصرف لبناني أو أجنبي عامل في لبنان، على إرساء أيّ ترتيب أو إجراء بغية ردّ أموال مودعيه. المصارف كلّها مجتمعة لا تملك القدرة على ردّ ودائع قيمتها 93 ملياراً. أضف إلى ذلك أنّ خطوة كهذه تكون بمنزلة تضحية بالـExtra fresh الذي تملكه المصارف على حساب الحلّ الشامل المطلوب من أجل عودة الاقتصاد الوطني إلى النهوض… سيكون الأمر أشبه بسلّة تُسكب فيها المياه.
في كلّ دول العالم جهة واحدة تحمل على عاتقها إدارة الأزمة. هذه الجهة هي السلطات السياسية والنقدية في البلاد، وليس المصارف منفردة، خصوصاً أنّ أزمتنا في لبنان لا تتعلّق بمصرف واحد أو مصرفين، بل تتعلّق بالقطاع المصرفي برمّته.
*أين أصبحت خطة التعافي؟ وهل فعلاً هناك ليونة مستجدّة لدى السلطة في موضوع تحمّلها مسؤوليّاتها؟
– واضح أنّ المزاج لدى السلطة بات أكثر ليونة. السلطة السياسية باتت أكثر قناعة بأنّ لعبة شراء الوقت لم تعد تجدي نفعاً. هي تتحجّج اليوم بالاستحقاقات السياسية مثل الفراغ في رئاسة الجمهورية وحكومة تصريف الأعمال. لكن من الواضح أنّنا تحوّلنا إلى مرحلة تتّسم بمزيد من “النضج”، إن كان لدى المودعين أو لدى الهيئات الاقتصادية أو حتى لدى بعض الكتل السياسية، التي بدأت ترى أنّ عدم تحمّل الدولة مسؤولياتها وعدم مشاركتها في الحلّ لا يمكن أن يعيدا لأيّ مودع دولاراً واحداً من أمواله في المصارف.
بخلاف ما يحاول البعض الترويج، فإنّ كلّ ما تملكه المصارف من ملاءة وأموال، قد لا يتعدّى 4 أو 5 مليارات دولار على سعر الصرف الحالي، وهذا واضح في موازنات المصارف، والأرقام منشورة ومعلنة.
هذه قيمة “دفترية” بلا “سيولة”، بينما نكرّر: الحلّ بأن تعتمد الدولة رؤية “تشاركية” مع القطاع الخاصّ تستطيع أن تزيد من قيمة مؤسّساتها وموجوداتها. ومن هنا ينمو حجم الاقتصاد ويستفيد الجميع. فلننظر إلى النموذج الاقتصادي في دبي. هناك أشركت الدولة القطاع الخاص معها، ومنحته الأراضي من أجل تشجيع الاستثمارات، فارتفعت قيمتها 5 و10 مرّات، وفي بعض الأماكن 100 ضعف.
أمّا هنا في لبنان فلا يمكن التفكير إلا من خارج الأطر الكلاسيكية. الاقتصاد الوطني يستحيل أن ينمو بلا القطاع الخاص، ولبنان في كلّ مسيرته وتاريخه كان على الدوام قائماً على قاعدتين:
1- قطاع خاص ناجح يحقّق الأرباح.
2- قطاع عام متعثّر يرزح تحت التعثّر والخسائر.
إقرأ أيضاً: الدولار هبط 1,000 ليرة وليس 13,000… فلا تنغشّوا
حينما خرجت الأمور عن حدّها وزادت الخسارة في القطاع العام نتيجة الفساد والمحاصصة، انهار كلّ شيء. تسبّب القطاع العام بكسر وانهيار القطاع الخاص. أمّا ما ندعو إليه فيقوم على إطلاق يد القطاع الخاص كي ينهض مجدّداً، وبذلك يستطيع أن ينهض ويحمل معه الاقتصاد الوطني برمّته، بينما الدولة تتقمّص دور “الشريك المضارب” الذي لا يتدخّل بالإدارة ولا في تسيير القطاعات، خصوصاً إذا ترافق ذلك مع ترشيق القطاع العام أو نقل جزء منه إلى القطاع الخاص، فالفعّالية والنمو لدى القطاع الخاص وليس في القطاع العام. وبالتالي فإنّ الإضراب هو محاولة للوصول إلى “حلّ وطني”، وليس للتمرّد على السلطة، بل لحماية المودعين والاقتصاد الوطني بطريقة عادلة للجميع.
لمتابعة الكاتب على تويتر: emadchidiac@