إن تسنى لك ارتشاف فنجان قهوتك بهدوء ومن دون إزعاج و”كركبة” وحمل هموم الكهرباء والمياه والنتّ والاشتراك، مع سيجارة تنفخ مرارتك بها صباحاً بصمت، وسرحت في ملكوت السموات والأرض، وفي شؤون البلاد والعباد، تكتشف سريعاً كم كان “عراب” اتفاق الطائف الرئيس الراحل رفيق الحريري محقاً في نظرته إلى وطننا العجيب.
تستدرك كم كان يسبقنا الرجل في الزمن، وفي رؤيته وتطلعاته المستقبلية للبنان، وفي نظرته إلى صداقات هذا البلد الصغير، وكم كانت السلطة الحالية من بعده، وكنّا معها قصيري النظر، غارقين بفتات الشعارات الرنانة، غير مدركين لواقعنا الميؤس منه.
بعد الاغتيالات
منذ العام 2005 والمجتمع اللبناني يصرف من الرصيد الذي تركه هذا الرجل، إن اعترفنا بهذه الحقيقة أو لم نعترف. 17 عاماً مرّت على اغتياله وما زلنا نصرف من رصيد نفد، ومُنع يوماً ما من استكماله على يدّ “أرزل” الناس.
مُنع الرجل من استكمال تطلعاته لقطاعات الكهرباء والماء والاتصالات والمطار وشبكات الطرق والتعليم، فحورب حتى النخاع. واتُهم بأنّه كان يسعى إلى بيع البلد ومقدراته لـ”العرب” و”دول الخليج” التي تتوق السطلة الحالية اليوم إليها، حتى تتكرّم فيرمون رجالات السلطة بـ”طرفة عين”.
وصلنا إلى درك “الخصخصة الفردية”، حيث كل فرد في المجتمع اللبناني بات مضطراً مرغماً على خصخصة خدماته بنفسه
خصخصة فردية
كان رفيق الحريري يرى أنّ “الخصخصة” حلّ لكل الأزمات التي نعاني منها اليوم، وهروب من حالة تآكل الدولة ومؤسساتها وفرصة لتقديم الخدمات للمواطنين بشكل طبيعي وسليم. في المقابل كان أغلب أركان السلطة وبعض الاقتصاديين والناشطين، يرفضونها ويسوّفون ويسرفون في كيل التُهم… حتى وصلنا اليوم، نتيجة الفساد والفوضى والطمع، إلى “خصخصة” مموهة. خصخصة من نوع آخر بخلاف تلك المعروفة والمطبقة في أكثر الدول تقدماً حول العالم، والتي تقوم على شراكة القطاعين العام والخاص.
وصلنا إلى درك “الخصخصة الفردية”، حيث كل فرد في المجتمع اللبناني بات مضطراً مرغماً على خصخصة خدماته بنفسه:
انقطع التيار الكهربائي 24/24 (يرحم ترابك يا جبران باسيل). دُفعنا صوب العودة مجدداً إلى البطاريات والـUPS وأحدث صيحات التكنولوجيا في مجال الطاقات البديلة، من ألواح شمسية صيفاً، ومراوح وتوربينات شتاءً، من أجل الاستنارة بشكل فردي. كل منزل له ألواحه الخاصة، وكل شقة لها مراوحها… وخود على مراوحة وانتظار نسمة ريح أو ضربة شمس، وعلى مشاكل فوق السطوح ونزاعات على المساحات المشتركة.
فبعد أن كنا نتطلّع لتشجير السطوح وجعل العاصمة “خضرا من فوق”، زرعناها بالألواح السوداء (مثل كل ما في البلد) بشكل عشوائي مقيت.
مشاكل طالع نازل
أمّا في خدمة المياه، فحدّث ولا حرج، إذ وصلت بنا “الخصخصة الفردية” إلى منتهاها، وبات كل بيتٍ يشتري حاجته من المياه الأسبوعية أو اليومية حسب استهلاكه. فيأتي أصحاب “السيترن” بعضلاته المفتولة وبشاحنتهم المهترئة ليبيعونك المياه بالبرميل، مفرغاً ما يحمله من مياه ممزوجة بالرمول والوحول والأملاح في خزانك من دون خزانات جيرانك. وإن كنت “قبضاي” حاول أن تطلب “سيترن” مياه من منطقة أخرى، وانظر كيف “بيركب” المشكل ويبدأ “دق البوكس” نتيجة تقاسم المناطق كارتيلات الموزعين والعصابات وأزلامهم. ناهيك عن أزمة مياه الشفة، التي انقطعت هي الأخرى من الحنفيات بشكل تام، وأصبحنا منذ زمن بعيد، نشتريها بالقوارير والشنط والقناني بمختلف الأنواع والأصناف والتسميات: “تنورين” و”نستله” و”صنين” و”صحة” و”أكوافينا” (لنشوف مين الأقوى فينا)… أليست هذه خصخصة يا متعلمين يا بتوع المدارس؟
إقرأ أيضاً: أبو ماهر “المنتشي” بلقاء رئيسي: هرولة إلى طهران
ينسحب هذا الأمر أيضاً على خدمة الأنترنت، حيث باتت المؤسسات التجارية وبعض المنازل تتوق للحصول على الخدمة فردياً، وبعيداً عن شبك حواسبها وهواتفها الذكية (والغبية بطبيعة الحال) ضمن الشبكات المحلية. وذلك من خلال خدمة الأقمار الصناعية المستحدثة، والتي تمدّك بالخدمة لك وحدك من دون سواك من جيرانك الذين يلاصقونك في المبنى نفسه.
هذا الواقع المرير كله بدأ يؤسس لمجتمع “مخصخص” منقسم على ذاته ومفكك أيما تفكك، تعلو فيه الـ”أنا” وتسوده مقولة “سكّر الباب يا أبيه ما إلنا دخلة”.
أنا ومن بعدي الطوفان، بعيداً عن أيّ مشهد من مشاهد الشراكة والتضامن المجتمعي!
يا ربّي نفس…
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب