ها هي لعنة الانتخابات النيابية تجرّ البلاد إلى الدم والدمار. تزيد الخراب خراباً وتُطيح بأيّ محاولة ولو خجولة للجم الانهيار وتهدئة ثورة البركان الآخذ في الانفجار على مدار الساعة واليوم. ثمّة مَن يلعب بالمحظور ليعيد شدّ عصب جمهوره، ويجرّ الآخرين إلى لعبة المزايدة الشعبويّة خشية الوقوف أمام صناديق الاقتراع ضعيفاً، فيقدِّم الضحايا الأبرياء على مذبح التحشيد الشعبيّ. فعلاً هي لعبة شيطانية! شارك فيها أكثر من طرف، إمّا بالمباشر، وإمّا بالتواطؤ…
أمس الأوّل، وعلى محور الطيّونة – عين الرمّانة، ارتسمت معالم جديدة لمرحلة قد تكون أشدّ خطورةً ومصيريّة. “القوّات” متّهمة، بتوثيق من الأجهزة الأمنيّة، بالإجهاز على المتظاهرين من خلال التصويب المباشر على رؤوسهم، لتندلع اشتباكات مسلّحة أعادت عقارب الساعة 45 عاماً إلى الوراء، وكأنّ اللبنانيّين لا يتعلّمون أبداً من دروس وجعهم ومآسيهم. بيان الثنائيّ الشيعيّ، الأوّل من نوعه، يوجِّه الاتّهام بالاسم إلى “القوّات” بتنفيذ تلك العمليّة.
اللافت في المواقف هو ما صدر عن الاتّحاد الأوروبي، وكان بمنزلة إدانة دولية غير مباشرة لسلوك المحقّق العدلي بعدما شدّد على “ضرورة استكمال التحقيق في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، في أقرب وقت ممكن
في الطيونة، سقط الأمن شهيداً على مرأى من الجميع. وقعت آخِرة أوراق التين التي كانت تغطّي عرْي الدولة الفاقدة لكلّ شرعيّة، بعد سقوط أوراق الحماية الاجتماعية والنقدية والماليّة والاقتصادية. بات الوضع الداخلي مشرَّعاً على أبشع أنواع الاحتمالات: الفتنة الطائفيّة. في مقدورها أن تكون خبزنا اليوميّ، على أيّ خطّ تماسّ، قديم – جديد، قد يعاد نكء جراحه، إلى أن تقضي الانتخابات أمراً كان مفعولا.
بالأمس أيضاً، سقط تفاهم مار مخايل شهيداً حتى لو تُرِكت ورقة نعيه إلى وقت لاحق. لكنّ التحالف، الذي صار عمره أكثر من 15 عاماً، تعرّض لضربة في الصميم. هو، بالأساس، أشبه بهيكل عظميّ بلا روح أو جسد، لكنّ دفنه كان متروكاً لمرحلة لاحقة. إلا أنّ ما حدث بالأمس قد لا يمرّ مرور الكرام، لأنّه يعبّر عن مسار جديد اختاره العونيّون لأنفسهم للمرحلة المقبلة. فالمزايدة الشعبويّة التي تجرّهم إليها “القوات” قد تضعهم على مفترق طريق مع حليفهم الشيعيّ.
وها هو رئيس الجمهورية ميشال عون يقفز في العام الأخير من ولايته من ضفّة التحالف الذي وصل على صهوته إلى قصر بعبدا، إلى ضفّة “شيخ الصلح” الذي قرّر لعب دوره، ممسكاً العصا من وسطها، فأدان الاعتراض في الشارع، متناسياً أنّ تيّاره هو وليد التحرّكات الميدانية، خصوصاً أنّ “القوات” نجحت في تقديم ذاتها على أنّها درع حماية المجتمع المسيحيّ، الأمر الذي يُحرج الفريق العوني ويدفعه إلى مزيد من الخطاب اليميني المتطرّف لكي لا يُسحَب بساط الشعبويّة من تحت قدميه.
في هذه الأثناء، لا تزال الحكومة في حالة “كوما” لن تستيقظ منها إلا بعد تلبية مطالب الثنائي الشيعي، الذي زادته أزمة تحقيقات المرفأ، ثمّ أحداث الطيونة، لُحمةً وتصلّباً، الأمر الذي قد يضع مصير الحكومة برمّتها في مهبّ الريح إذا لم يُستجَب لمطالبه.
في هذا السياق، تؤكّد المعلومات أنّ الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء، التي شهدت نبرة عالية السقف من جانب وزير الثقافة محمد مرتضى على خلفيّة الاعتراض على أداء المحقّق العدلي طارق البيطار، كان يمكن لها أن تنتج صيغة توافقيّة، أو أقلّه بداية تفاهم، على تخريجة ما قد تساهم في تخفيف التشنّج، إلا أنّ إصرار الثنائي الشيعي وردّة فعل رئيس الجمهورية المماثلة، عطّلتا الوصول إلى حلّ جذريّ رحّل التفاهم إلى جلسة أخرى، فتعطّلت الحكومة وعُلِّق عملها إلى حين إنتاج حلّ يعيد ثقة الثنائي الشيعيّ بسلوك المحقّق العدلي.
لا تزال الحكومة في حالة “كوما” لن تستيقظ منها إلا بعد تلبية مطالب الثنائي الشيعي، الذي زادته أزمة تحقيقات المرفأ، ثمّ أحداث الطيونة، لُحمةً وتصلّباً، الأمر الذي قد يضع مصير الحكومة برمّتها في مهبّ الريح إذا لم يُستجَب لمطالبه
ومع ذلك، أفضت المشاورات، التي كانت تحصل عشيّة أحداث الشارع الأمنيّة، إلى تسوية من شأنها تصويب عمل المحقّق العدلي من خلال ترك باب قانونيّ للمراجعة. إلّا أنّ خطاب التحدّي، الذي غلب على ما عداه خلال الساعات الأخيرة، قد يدفع القاضي البيطار إلى مزيد من التشدّد، بدليل أنّ بعض مَن يعرفونه يجزمون أنّه ليس بوارد التنحّي. وذلك في مقابل إصرار الثنائيّ الشيعي على “عزله” بعد تطوّرات الشارع. إذ يعطي الثنائي العاملين على خطّ الاتّصالات المحلّية والدوليّة (الفرنسية تحديداً) مهلةً حتى يوم الاثنين المقبل للاتّفاق على صيغة تضع حدّاً لمهمّة البيطار، وإلّا فإنّه التصعيد السياسي من جديد، كما يقول المتابعون.
اللافت في المواقف هو ما صدر عن الاتّحاد الأوروبي، وكان بمنزلة إدانة دولية غير مباشرة لسلوك المحقّق العدلي بعدما شدّد على “ضرورة استكمال التحقيق في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، في أقرب وقت ممكن، ووجوب أن يكون التحقيق غير منحاز وذات صدقيّة وشفافاً ومستقلّاً، والسماح بمواصلة التحقيق من دون أيّ تدخّل في الإجراءات القانونية، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار في النهاية”.
إقرأ أيضاً: الشارع “يَبلَع” البيطار: هل يتنحّى بنفسه؟!
ولعلّ هذا ما يُفسِّر ميل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى الاستقالة و”النفاذ بريشه” لو قُدِّر له ذلك، كما يقول المعنيّون الذين يشيرون إلى أنّ القطب الطرابلسي يشعر بثقل المرحلة وخطورتها، خصوصاً أنّه قد يواجه صعوبات وتعقيدات جمّة قبل الوصول إلى حلّ يُرضي الجميع على اعتبار أنّ “تنحية” المحقّق العدلي شبه مستحيلة قانوناً،.فيما الفريق المعترض يرفع سقف مطالبه عالياً. ولذا قد يكون أهون الشرور بالنسبة إليه هو الهروب من حقل الألغام، إلّا أنّ الإدارة الفرنسية، الوصيّة على مهمّته، ترفض هذا الخيار وتعارضه، أقلّه في المدى المنظور، وتعتبره بوّابة إلى جهنّم الفعليّة. ولهذا هو مضطرّ إلى البقاء في السراي الحكومي بانتظار أن تهدأ النفوس، ويبدأ البحث الجدّيّ في المخارج القانونية والسياسية التي تُخرِج حكومته من غرفة الإنعاش.