ليس ما فعله الرئيس التونسي قيس سعيد سوى خطوة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تونس. الواضح أنّ الرئيس التونسي يمتلك دعماً قويّاً من المؤسسة الأمنيّة التي تصرّفت، أقلّه إلى الآن، بطريقة توحي بأنّها في تصرّف رئيس الجمهوريّة وقراراته التي تستهدف في الواقع حركة النهضة، التي ليست سوى فرع من تنظيم الإخوان المسلمين المتعطّش إلى السلطة.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّ قيس سعيد رئيس منتخب من الشعب مباشرة. هذا يجعل منه رئيساً شرعياً يتصرّف بما تمليه عليه واجباته الوطنية التي تتجاوز مصلحة فئة معيّنة لا همّ لها سوى الاستحواذ على السلطة.
ليس قيس سعيد عازفاً منفرداً في مقاومته للنهضة التي تتحدّث حالياً عن “انقلاب” قام به رئيس الجمهوريّة. كان الانقلاب الحقيقي في امتناع قيس سعيد عن أخذ المبادرة، والتفرّج على بلده ينهار
أظهرت حركة النهضة في السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ خروج زين العابدين بن علي من تونس، أنّها القوّة الوحيدة الفعليّة والمنظّمة في البلد. وكشفت تصرّفاتها التي تُوِّجت بوصول زعيمها راشد الغنوشي إلى موقع رئيس مجلس النوّاب أنّها تراهن على الوقت من أجل التمكّن من تونس. استخفّت دائماً بكون الشعب التونسي مستعدّاً للمقاومة، وبكون المرأة التونسيّة ليس من السهل إجبارها على التخلّي عن المزايا والمكتسبات التي تتمتّع بها استناداً إلى قوانين عصريّة وحضاريّة لا علاقة لها بالإخوان المسلمين وتخلّفهم.
أظهرت النهضة أيضاً دهاءً في تعاطيها مع الوضع التونسي، وذلك منذ نجاح “ثورة الياسمين” واضطرار بن علي إلى مغادرة البلد. شيئاً فشيئاً تسلّلت إلى الإدارات التونسيّة. ساهمت في تضخيم جهاز الدولة، وجعل المواطنين يعتمدون على رواتب من دون عمل منتج. ترافق ذلك مع تدهور مستمرّ للوضعين الاقتصادي والاجتماعي في ظلّ فوضى إداريّة جعلت الشركات الكبرى، ومنها شركات التعدين، تنسحب من تونس. كان واضحاً رهانُ النهضة على نشر البؤس والتخلّف من أجل التمكّن نهائياً من تونس ومن صمود الشعب التونسي، وفي مقدّمه المرأة.
الأكيد أنّ قيس سعيد ليس الباجي قائد السبسي الذي يمتلك شرعية تاريخية، والذي عرف كيف يتعاطى مع النهضة معتمداً على إرثه البورقيبيّ. لكنّ أحداث الأيّام الأخيرة كشفت طبيعة أخرى للرجل. تعتمد هذه الطبيعة على الجرأة والاستعداد للمواجهة. ليس قيس سعيد ضابطاً نفّذ انقلاباً، لكنّه رئيس للجمهوريّة اُنتُخب بأكثريّة شعبيّة كبيرة، وقد وجد بلده يتفكّك أمامه. لم يكن لديه من خيار آخر غير المواجهة بدلاً من الانكفاء وترك راشد الغنوشي يتفرّج على التجاذبات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة هشام المشيشي الذي أثبتت الأزمة الناجمة عن جائحة “كوفيد- 19” عجزه عن تحمّل مسؤوليّاته في حدودها الدنيا.
ليس سرّاً أنّ “ثورة الياسمين” التي افتتحت موسم “الربيع العربي” فقدت بريقها منذ زمن طويل. اعتبرت حركة النهضة تونسَ ثمرةً ستنضج مع مرور الوقت، ولا تنتظر سوى موعد القطاف، مع ما يعنيه من انضمام تونس إلى البلدان البائسة في المنطقة العربيّة.
ليس قيس سعيد عازفاً منفرداً في مقاومته للنهضة التي تتحدّث حالياً عن “انقلاب” قام به رئيس الجمهوريّة. كان الانقلاب الحقيقي في امتناع قيس سعيد عن أخذ المبادرة، والتفرّج على بلده ينهار. كلّ ما في الأمر أنّ الرجل تحمّل مسؤوليّاته لا أكثر. الأهمّ من ذلك كلّه أنّ الشعب التونسي أثبت أنّه يرفض الاستسلام للفوضى والتخلّف والمؤسسات الموازية لمؤسسات السلطة التي أنشأتها النهضة وتحوّلت إلى ثقوب سوداء في الدولة التونسيّة. هناك دولة تسير ببطء أحياناً، وبسرعة كبيرة في أحيان أخرى، نحو الاهتراء. هذا ما كشفته الأزمة الناجمة عن جائحة “كوفيد- 19” التي أراد رئيس الحكومة من خلالها الاكتفاء بتقديم وزير الصحّة كبش فداء.
الشعب التونسي أثبت أنّه يرفض الاستسلام للفوضى والتخلّف والمؤسسات الموازية لمؤسسات السلطة التي أنشأتها النهضة وتحوّلت إلى ثقوب سوداء في الدولة التونسيّة
ثمّة أسئلة كثيرة ستطرح نفسها في الأيّام المقبلة التي ستتظاهر فيها النهضة بأنّها متمسّكة بالقانون والدستور. ليس معروفاً عن أيّ قانون وأيّ دستور تتحدّث الحركة في بلد تُرتَكَب فيه جرائم من نوع جريمتيْ اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي. أين التحقيق في الجريمتين؟ هل صارت تونس مجرّد بلد فالت لا مكان فيه لأيّ تطبيق للقانون أو للدستور… إلّا عندما يتعلّق الأمر بممارسة رئيس الجمهوريّة لصلاحيّاته؟
كان مفترضاً بالذين تولّوا السلطة بعد “ثورة الياسمين” التخلّص من عِقَد الماضي، مع ما يعنيه ذلك من اعتراف بإيجابيّات عهديْ الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. بنى بورقيبة مؤسسات راسخة لدولة حديثة، وجعل تونس على تماس مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. أحسن الثلاثيّ، المؤلّف من الضبّاط زين العابدين بن علي والحبيب عمّار وعبدالحميد الشيخ، الفعلَ بالتخلّص منه في الوقت المناسب في عام 1987 بعدما تقدّم به العمر وبات أسير نساء القصر. في مقدَّم النساء كانت ابنة أخته سعيدة ساسي. عرف بن علي كيف يتخلّص من رفيقيْه في الانقلاب على “المجاهد الأكبر”. تفرّد بالسلطة وتصرّف بضيق أفق سياسي. لكنّ ما لا يمكن تجاهله، على الرغم من الفساد الذي استشرى في ظل صعود نجم زوجته الثانية ليلى طرابلسي، أنّه أدار البلد بكفاءة عالية، وساعد في نشوء طبقة متوسّطة تونسية، وبناء اقتصاد يعتمد على الصناعات التحويلية وعلى الزراعة والسياحة وخدمات أخرى خلقت فرص عمل للتونسيين. فعل ذلك كلّه في ظلّ الاستقرار والأمن.
إقرأ أيضاً: 5 سنوات على الانقلاب: هل تغيّر حزب إردوغان؟
يُفترض بتونس تذكُّر ماضيها من أجل تأمين مستقبلها. هل لدى قيس سعيد ما يكفي من المؤهّلات التي تسمح له بطيّ صفحة التجاذبات التي عانتها تونس في السنوات العشر الأخيرة؟ الأكيد أنّ تونس عند مفترق، لكنّ ما يشجّع على بعض التفاؤل أنّ قيس سعيد خرج من دور المتفرّج بعدما اقتنع بضرورة الإقدام على خطوة في اتجاه إنقاذ تونس من براثن الإخوان المسلمين. ما يمكن أن يساعده في ذلك انضباط الجيش والمؤسسات الأمنيّة، أي الدولة العميقة في تونس، من جهة، ووجود فئات شعبية واسعة وهيئات نقابية ومهنيّة مؤيّدة له، من جهة أخرى.
ليس قيس سعيد مدعوّاً وحده إلى إنقاذ “ثورة الياسمين”. المسألة تهمّ الشعب التونسي كلّه الذي بات مستقبله على المحكّ. تكون تونس أو لا تكون، تلك هي المسألة!