حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها الآن بعد انتهاء حكم الأسد، وتضمن للسوريين فرصة العيش حياة كريمة ولائقة. ودعا الولايات المتحدة إلى إعادة فتح السفارة الأميركية في دمشق والاتّصال بشكل مباشر مع الجولاني، معتبراً أنّه بعد سنوات من الاضطهاد من قبل نظام وحشيّ، والانتهاكات على أيدي إيران وروسيا، والخيانة من قبل الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، حقّق السوريون تحريرهم بأيديهم، ويستحقّون مساعدة الولايات المتحدة واستعدادها للاستماع إليهم.
وصف هوف الذي كان سابقاً المنسّق الخاص للشؤون الإقليمية في مكتب المبعوث الخاصّ للسلام في الشرق الأوسط التابع لوزارة الخارجية الأميركية جورج ميتشل، رحيل بشار الأسد عن سوريا وانهيار نظامه بأنّه “المفاجأة الجيوسياسية الأكثر متعة في القرن الحادي والعشرين”. واعتبر أنّه على الرغم من أنّ عشرين مليون سوري “يواجهون اليوم أوقاتٍ عصيبة مع وجود رجال مسلّحين لتحديد المرحلة التالية من الحكم، هناك يقين مطلق واحد: مع رحيل الأسد، أصبحت لدى السوريين الآن فرصة لعيش حياة كريمة ولائقة”.
يستذكر هوف لقاءه مع الرئيس الأسد في 28 شباط 2011، في دمشق، لإبلاغه بما هو مطلوب من سوريا لاستعادة كلّ الأراضي، وخاصة مرتفعات الجولان التي استولت عليها إسرائيل في عام 1967، مشيراً إلى أنّ تلك المحادثة والمحادثات التي تلتها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وآخرين كانت بمنزلة النقاط لوساطة سلام خلفيّة اكتسبت زخماً في خريف عام 2010 لدرجة التخطيط للجمع بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين في عاصمة في شرق أوروبا في نيسان 2011. وهو ما لم يحدث مطلقاً. إذ ماتت احتمالات السلام بين سوريا وإسرائيل في منتصف آذار 2011. فعندما أمر الأسد أجهزته الأمنيّة باستخدام القوّة المميتة ضدّ السوريين المحتجّين سلمياً على عنف الشرطة والاحتجاز الجماعي غير القانوني لأنصار الديمقراطية، فعل أكثر من التنازل فعليّاً عن مرتفعات الجولان لإسرائيل، فهو دمّر أيّ أمل في سوريا أن يقوم رئيس شابّ متعلّم بإصلاح النظام الاستبدادي الوحشي الذي ورثه عن والده حافظ، ومهّد الطريق لحرب داخلية دمّرت البلاد بالكامل، إلى أن طُرد من السلطة في 8 كانون الأول.
وصف هوف رحيل بشار الأسد عن سوريا وانهيار نظامه بأنّه “المفاجأة الجيوسياسية الأكثر متعة في القرن الحادي والعشرين”
لكن كيف حدث ذلك؟
يعتقد هوف، الذي عمل ملحقاً للجيش الأميركي في بيروت، ثمّ في مكتب وزير الدفاع مديراً للأردن ولبنان وسوريا والشؤون الفلسطينية، أنّ “المتمرّدين السوريين بقيادة هيئة تحرير الشام قرّروا الشهر الماضي الاستفادة من الهزائم الأخيرة التي لحقت بإيران و”الحزب” من خلال محاولة توسيع حكمهم في شمال غرب سوريا إلى حلب. فعلوا ذلك دون أيّ جهد تقريباً. فالجيش السوري الذي تدهور وضعه بسبب الخمول وأفرغه الإجرام والفساد وإنتاج الكبتاغون، لم يكن في حالة تسمح له بالقتال. وكان الباب إلى حماة وحمص ودمشق مفتوحاً على مصراعيه. ولم يعد أكبر مؤيّدي نظام الأسد، إيران وروسيا، يرغبان في دعم النظام الذي كان في الواقع “حطاماً هائلاً”.. وقد تفكّك إلى زمر إجرامية، فنهبت عائلة الأسد وحاشيته ما في وسعهم من البلاد التي دمّروها.. وأدّى الشرّ الوراثي لأسرة إجرامية وعوامل تمكينها إلى حلّ كلّ شيء”.
ماذا بعد إذاً؟
يبدو أنّ الجولاني، في رأي هوف، هو الفائز الأكبر. وعلى الرغم من ادّعائه قطع العلاقة بتنظيم القاعدة في عام 2016، تظلّ هيئة تحرير الشام منظّمة إرهابية كما صنّفتها كلّ من تركيا والولايات المتحدة. ويبدو أنّ “إدارة جو بايدن سعيدة بفرار العميل الإيراني الروسي، المتخصّص في القتل الجماعي. ومع ذلك، فإنّ التناقض في موقف واشنطن بشأن هيئة تحرير الشام أمر مفهوم. فمن ناحية، تلتزم الهيئة بشدّة تصفية وجود ونفوذ مزيج إيران و”الحزب” في سوريا، وربّما وجود ونفوذ روسيا أيضاً. لكن من ناحية أخرى، يشكّل توجّهها الإسلامي مخاطر محتملة على الأقلّيات السورية، وخاصة العلويين والمسيحيين، علاوة على احتمال وقوع الحكم السوري في أيدي جماعة أصولية تضمّ مقاتلين أجانب وربّما لا تزال تحمل مشاعر إرهابية عالمية”.
الجيش السوري الذي تدهور وضعه بسبب الخمول وأفرغه الإجرام والفساد وإنتاج الكبتاغون، لم يكن في حالة تسمح له بالقتال
ماذا تريد أميركا من الجولاني؟
يعتبر هوف أنّ “هذه التحفّظات المبرّرة بشأن هيئة تحرير الشام تفرض التنسيق والتعاون الوثيقين بين واشنطن وأنقرة. فتركيا لا ترى أيّ فائدة في أن “يحكم” سوريا أيّ شخص قد تؤدّي طائفيّته الصارخة إلى تدفّق اللاجئين في اتّجاهها. وربّما يعود دعمها لهجوم المتمرّدين الحالي إلى فشل الأسد في توفير ضمانات للعودة الآمنة والمحميّة للّاجئين السوريين من تركيا. وهي أولويّة سياسية محلّية رئيسية للرئيس رجب طيب إردوغان. ولا بدّ لتركيا من ممارسة بعض النفوذ على ما سيأتي بعد ذلك. وربّما تستطيع، بمساعدة واشنطن، إقناع الجولاني باتّخاذ الخطوات التالية الآن بعد انتهاء حكم الأسد:
– تشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل أولويّاتها:
1- إرساء القانون والنظام مع تحقيق العدالة للجميع.
2- الإفراج عن جميع السجناء السياسيين.
3- ضمان رحيل القوات الأجنبية من الأراضي السورية.
4- توفير العودة الآمنة للّاجئين السوريين.
5- رفع العقوبات وبدء إعادة الإعمار.
6- تهيئة الظروف لإجراء انتخابات برلمانية وتحقيق الإصلاح الدستوري.
– التعهّد بعدم دخول القوّات المسلّحة لهيئة تحرير الشام محافظة اللاذقية أو أيّ أماكن أخرى يقيم فيها سوريون علويون. ويمكن للسلطات السورية، إذا لزم الأمر، طلب المساعدة التركية للدفاع عن المدنيين من أيّ شخص مدفوع بمشاعر الانتقام.
– التعرّف، بالتعاون مع عناصر المعارضة السورية الأخرى، على كبار الضبّاط العسكريين السوريين المحترفين الذين انشقّوا على مرّ السنين ووضعهم في قيادة ما بقي من القوّات المسلّحة السورية.
– استخدام وحدات الجيش السوري القائمة إلى أقصى حدّ ممكن تحت قيادة جديدة ولائقة ومهنيّة لتوفير الأمن في المناطق المأهولة بالسكّان.
– السماح لأفراد هيئة تحرير الشام بالانضمام إلى الجيش السوري وتحديد مهلة ستّة أشهر للقيام بذلك أو نزع سلاحهم.
– التوضيح للشعب السوري أنّ سيادة القانون في حقبة ما بعد الأسد لن تجلب أيّ ميزة أو ضرر لأيّ سوري على أساس طائفته.
– بدء العمل على صياغة دستور سوري جديد شامل.
هوف: لا شكّ أنّ عشرين مليون سوري يواجهون الآن مستقبلاً مليئاً بالتحدّيات والأخطاء
ما هو المطلوب من أميركا؟
من ناحية أخرى، يجب على الولايات المتحدة في رأي هوف:
– أن تتحرّك بسرعة، ما إن تسمح الظروف الأمنيّة، لإرسال مبعوث خاصّ إلى سوريا وإعادة فتح السفارة الأميركية في دمشق.
– الاتّصال المباشر بالجولاني مع الإبقاء على الشكّ فيه بهدف إمكانية التأثير عليه.
– الإبقاء على العقوبات المفروضة على عائلة الأسد وحاشيته، والضغط على كلّ من يستضيفه لكي يمثل في لاهاي لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وتعليق جميع العقوبات الاقتصادية الأخرى المفروضة على سوريا.
– تقديم مساعدات إنسانية وتنظيم هيكل لإعادة إعمار سوريا بالتعاون مع الحلفاء والشركاء.
– على الرغم من أنّ تركيا قد تكون محاور أميركا الأكثر أهمّية في الأيام والأسابيع المقبلة، إلا أنّ واشنطن ينبغي لها ألّا تدّخر أيّ جهد لإنشاء جبهة موحّدة من أجل سوريا بين الحلفاء والشركاء. ووجود فرنسا مهمّ في هذا الصدد، وكذلك الإمارات العربية المتحدة.
إقرأ أيضاً: الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”
يخلص هوف، الباحث حالياً والمدير السابق لـ”مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط”، التابع لـ”المجلس الأطلسي”، إلى القول: “لا شكّ أنّ عشرين مليون سوري يواجهون الآن مستقبلاً مليئاً بالتحدّيات والأخطاء. فمع رحيل عائلة الأسد وحاشيته، أتيحت لسوريا أخيراً فرصة لتحقيق نوع من الانتقال السياسي الذي تصوّره بيان جنيف الختامي لعام 2012 وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254. وستتاح لهم الآن فرصة لم تكن موجودة من قبل للعيش والعمل والازدهار في بلدهم الأصلي بدلاً من البحث عن اللجوء والفرصة في الخارج. وبعد سنوات من الاضطهاد من قبل نظام وحشي، والانتهاكات على أيدي إيران وروسيا، والخيانة من قبل الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، حقّق السوريون تحريرهم بأيديهم. وهم يستحقّون مساعدة الولايات المتحدة واستعدادها للاستماع. لكنّ الثورة السورية، بغضّ النظر عمّا سيحدث بعد ذلك، هي في المكان الذي تنتمي إليه: في أيدي الشعب السوري”.
لقراءة النص بلغته الأصلية اضغط هنا