طائف واحد لا “طائفان”

مدة القراءة 6 د

 دخل لبنان بعد توقيعه على اتّفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني، مدار القرارات الدولية الملزمة. تتطلّب هذه الفترة من الدولة ديناميكية رشيدة في سبيل إنتاج سلطة تنال ثقة الشرعيّتين الوطنية والدولية. لم يكن صدور القرارات الدولية الخاصّة بلبنان أمراً عبثياً أو محض صدفة. بل أتت لتخلق المظلّة الدولية الحامية والداعمة للبنان. فالطائف واحد لا طائفان.

 

أطلق الزعيم اللبناني الراحل صائب بك سلام شعار “لبنان واحد لا لبنانان” في صيف 1960. كرّسه بعد أحداث 1958 في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون، التي شرخت البلاد، وهدّدت بشبح الحرب. لم يولد هذا الشعار من فراغ. رفعه رجل دولة واستقلال وطنيّ ورؤيويّ. يومها كان لبنان مقسوماً على نفسه. وما زال كذلك ولو بطريقة مغايرة، حيث ينقسم بين:

– من يرى خلاصة حرب الإسناد هزيمةً، وبين من يراها انتصاراً.

– من يرى في لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه، وبين من يراه ساحة ومستقرّاً إلى حين.

– من يرى في لبنان دولة ولاية الفقيه، وبين من يراه دولة سيادية.

– بين من يرى في لبنان وطن الرسالة والتنوّع والتعدّدية مع وقف العدّ، وبين من يراه جمهورية الساحة المستباحة.

اختصرت الأيام القليلة الماضية الكثير من المفاجآت والأحلام. تحقّقت فيها أحداث بدت مستحيلة. ودلفت أحداث منتظرة منذ أكثر من نصف قرن دفعة واحدة. سقط نظام “آل الأسد” في الشام. فرّ بشار إلى روسيا. فاح عطر أزهار الحريّة في سوريا، تلك التي بشّر بها سمير قصير في كتبه ومقالاته. ربط سمير قصير استقلال لبنان بحرّية سوريا وربيعها واستقلالها. صار الوقت وحان لتحقيق الاستقلال الحقيقي في لبنان، بعدما خرج الأسد ونظامه من التاريخ. إنّها الضربة الموجعة لإيران ومحورها، مع بداية تفكّك أذرعها ووحدة ساحاتها.

يعتمد لبنان في هذه المرحلة أيضاً على عقلائه للعودة إلى نظم الدولة ومؤسّساتها، وتطبيق اتّفاق الطائف بطريقة غير ملتوية

مفترق طرق

يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق مصيري، وأمام مرحلة حاسمة من تاريخه. يعوّل على الحكماء. تتأرجح الأمور بين احتمال بناء دولة المواطنة، القادرة على حماية واحتضان الجميع وفق مشروع متكامل ومستدام، وبين التدحرج إلى عالم من الفوضى المعلّبة وعدم الاستقرار الداخلي الممنهج.

يعتمد لبنان في هذه المرحلة أيضاً على عقلائه للعودة إلى نظم الدولة ومؤسّساتها، وتطبيق اتفاق الطائف بطريقة غير ملتوية، لأنّه طائف واحد لا طائفان.

اتّفاق الطائف

فصلت المحصّلة المباشرة لاتّفاق وقف إطلاق النار بين جبهتَيْ لبنان وغزة من جهة، وبين أرض الممانعة اللبنانية والجغرافية السورية مع سقوط النظام في الجهة المقابلة. في استراتيجية “الحزب”، هو النقيض التامّ لسردية الربط تحت شعار وحدة الساحات القائمة منذ الثامن من تشرين الأول 2023.

يُعدّ هذا البند الأساسي في الاتّفاق، في غير مصلحة “الحزب” من حيث دفاعه عن سرديّته وعن معاييره للانتصار، بما أنّه كان يمسك منذ بداية مغامرته العسكرية، غير الدستورية، شعار الربط بين الساحات، خاصة أنّ معايير الانتصار والهزيمة لن تكون مقتصرة على النتائج المباشرة، القصيرة المدى، للأحداث، وإنّما على موازين القوى المستقبلية.

تأثير سقوط الأسد… على “الحزب”

اختلفت المعايير عند فريق الممانعة اللبناني بشكل عامّ، وعند الثنائي الشيعي بشكل خاصّ. تلاشت وزنات أساسية كانت لهم، ساعدتهم كثيراً، وساهمت عبر فترات متعاقبة في رصف بنيانهم القائم خارج إطار الشرعية اللبنانية والإقليمية.

لا شك أنّ زوال نظام الأسد سينعكس سلباً على “الحزب”، وسينتج المزيد من الإرباك في ساحات الممانعة. يشير هذا الأمر إلى وجوب التغيير في منطق اللغة والتعامل السياسي. يضاف إلى ذلك التبدّل في قواعد المرحلة المستقبلية، بعد غياب السيّد حسن نصرالله عن الساحة لما كان يمثّل على المستوى الفردي والحزبي والمحوريّ من مكانة لدى ساحات فريق الممانعة داخل لبنان وخارجه.

يكمن بيت القصيد الأساسي في التأكّد ممّا إذا كان “طائف الحزب” هو عينه وثيقة الوفاق الوطني، أي الطائف الصريح والصحيح

إمكان ظهور شخصيّات ثالثة

يؤكّد ذلك تغييراً في طبيعة إدارة المرحلة المقبلة، من حيث الأطر العمليّة والحيثيّة التمثيليّة، مع إمكان ظهور شخصيّات ثالثة على الساحة التمثيلية، ولعب أدوار جديدة في المجال السياسي لمن هم من خارج الثنائية.

يرتبط الأمر بكيفية تصرّف “الحزب” في المرحلة المقبلة، وهو العائد من الحرب منهكاً وفاقداً لعدد كبير من قياديّيه. لكنّه رفع شعار النصر، وفق معاييره الخاصة، غير الواقعية. وقّع على اتّفاق إنهاء شرعية سلاحه في منطقة جنوب الليطاني، فما الجدوى منه شمال الليطاني وفي الداخل اللبناني؟

خرج “الحزب” من مقامرة حرب الإسناد والإشغال متكبّداً مزيداً من الخسائر في بيئته المؤيّدة. لكن تلوح في الأفق بشائر خير، ما زالت إلى الآن كلامية وإعلامية، لجهة الانضواء تحت سقف اتّفاق الطائف، عبّر عنها “الحزب” بمزيد من الرغبة في المرونة السياسية. لكن يبقى السؤال المشروع: عن أيّ “طائف” يتحدّث “الحزب”؟

يكمن بيت القصيد الأساسي في التأكّد ممّا إذا كان “طائف الحزب” هو عينه وثيقة الوفاق الوطني، أي الطائف الصريح والصحيح. عرقلت المرحلة السورية “الطائف” عبر الديمقراطية التوافقية، وشلّت السيطرة الإيرانية “الطائف” عبر الثلث المعطّل والسلاح غير الشرعي وقوى الأمر الواقع. زالت الأولى والثانية على الطريق.

تجب الإشارة توازياً إلى القيمة القانونية لاتّفاق الطائف، الذي حظي بوجهَيه القانوني والسياسي بدعم إقليمي ودولي بارز، حصّنه وضمن استقراره واستمراره. لم يعكس إجماعاً برلمانياً لبنانياً فقط، إنّما جاء نتيجة مناخ إقليمي ودولي مؤاتٍ ما زال قائماً.

لا شك أنّ زوال نظام الأسد سينعكس سلباً على “الحزب”، وسينتج المزيد من الإرباك في ساحات الممانعة

تفرض قرارات مجلس الأمن التزامات دولية على كلّ الأطراف المعنيّة، فيما لاتفاق الطائف قيمة دستورية وقانونية على المستوى الداخلي، لا سيما أنّ القرارات ذات الخلفيّة الأمنيّة تهدف إلى حماية السيادة اللبنانية، وتعبّر بصراحة عن أهمّ مقاصد اتّفاق الطائف في بسط السيادة والشرعية وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية على كلّ الأراضي اللبنانية. فلا فارق بالنسبة للدولة بين منطقة جنوب الليطاني وشماله وصولاً إلى الحدود السورية.

إقرأ أيضاً: سقط “الدّوحة”… قام “الطّائف”

إنّما على “الحزب” هنا معرفة الفوارق والخروج من حالة نكران الواقع والمكابرة. يفترض به عدم المضيّ بسياسات الالتفاف والتمييز بين مكوّنات الجغرافية اللبنانية لجهة حيازة السلاح. فالأرض اللبنانية واحدة ويجب أن تكون منزوعة من أسلحة الميليشيات اللبنانية والأجنبية. والمدخل الوحيد لتنفيذ اتّفاق الطائف هو تسليم “الحزب” سلاحه إلى الدولة والانخراط في العملية السياسية كسائر الأحزاب، وترك أمر الدفاع عن لبنان إلى الدولة والجيش. فالطائف واحد لا طائفان.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ElMehiedine

مواضيع ذات صلة

لا تضيّعوا الفرصة بالانتظار

فتح سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وتحطيم “الحزب”، بدءاً من اغتيال قائده التاريخي حسن نصرالله وصولاً إلى تدمير بنيته العسكرية البشرية والمادّية، نافذة تاريخية…

اللّحظة الإيرانيّة: انهيار على الطّريقة السّوفيتيّة

تواجِه الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستقبلاً محفوفاً بالمخاطر، نتيجة الضربات العسكرية والمعنوية التي تلقّاها محورها، وآخرها سقوط نظام الأسد في سوريا. وتزداد وضوحاً المقارنات مع انهيار…

عندما يكون الانتصار أو الهزيمة وجهة نظر

اختبر اللبنانيون خيبات كثيرة وتوتّرات أهليّة أكثر. اختبروا مِحناً أكثر، بلغ بعضها حدّ خنق الجماعات الأهلية التي استقوت بالشرق، كما تلك التي استقوت بالغرب. بعضها…

عدت رغم كل شيء… وسقط الأسد

بعد 19 عاماً بالتمام والكمال عدت إلى سوريا، عدت إليها حرة متحررة من طاغوتها. عدت ولم أفقد يوماً الأمل في العودة، عدت إلى طرطوس مدينتي…