هل يصل “المخلب” التركيّ إلى شرق الفرات؟

مدة القراءة 9 د

تختلف عمليّة “قفل – المخلب”، التي تنفّذها القوات التركية في شمال العراق منذ عشرة أيام ضدّ مواقع “حزب العمال الكردستاني”، من ناحية التوقيت والأهداف والتحالفات المحليّة والإقليمية المواكبة لها، عن العمليات السبع التي جرت في إطار المخلب التركي منذ العام 2019 حتى اليوم.

الجديد هذه المرّة هو أنّه بعد ساعات فقط على تحرّك القوات التركية في مناطق متينا وزاب وأفشين – باس بشمالي العراق، قامت الوحدات التركية بتنفيذ هجمات انتقامية مستخدمة المدفعية والمسيَّرات ضدّ مواقع لتحصينات “قوات سوريا الديمقراطية” المتمركزة في شرق الفرات، التي تتّهمها أنقرة بالتنسيق والتعاون مع عناصر “حزب العمال الكردستاني”. وأسفرت هذه الهجمات عن سقوط العشرات من القتلى والجرحى في صفوف هذه المجموعات.

اللافت طبعاً أن تتحرّك القوات التركية على جبهتَيْ شمال العراق وشمال شرق سوريا في وقت واحد، وأن تكون المواقف والرسائل المعلنة مرتبطة بأكثر من سيناريو ومتغيّر محلّي وإقليمي تساهم في إعادة قراءة الخارطة الجيوسياسية والجيوستراتيجية في البقعة الحدودية التي تجمع تركيا وإيران والعراق وسوريا، الدول الأربع التي تتقارب وتتباعد مواقفها في ضوء لعبة الكرّ والفرّ في علاقاتها ومصالحها.

تريد أنقرة الاستفادة من فرص ارتدادات الملف الأوكراني لمصلحة نفوذها ومصالحها الإقليمية في علاقاتها مع اللاعبين المؤثّرين

8 مؤشّرات أساسية

يطالعنا اليوم الكثير من المؤشّرات إلى احتمال حدوث مفاجآت غير متوقّعة في المشهد السوري بشقَّيْه السياسي والأمني، أهمّها اقتراب موعد عملية عسكرية تركية في شرق الفرات ضدّ وحدات “قسد” تقلب الكثير من المعادلات والتوازنات في ملفّ الأزمة التي مضى عليها أكثر من عقد:

1 – هناك قبل كلّ شيء التقرير المفصّل الذي نشرته صحيفة “تركيا” المقرّبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا عن وجود مفاوضات بين أنقرة والنظام السوري في دمشق برعاية بعض العواصم العربية بهدف دعم المصالحة بين البلدين وتسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، وإزاحة عقبة “قسد” في شرق الفرات عبر عملية عسكرية ضدّ هذه المجموعات تنهي نفوذها وتعيد آبار الطاقة إلى دمشق. السيناريو فيه طبعاً الكثير من الغموض وعليه الكثير من التحفّظات إلى جانب أنّنا لم نقرأ أو نسمع بعد أيّ تعقيب رسمي تركي أو سوري عليه.

2 – ثمّ هناك تطوّرات ملف الحرب في أوكرانيا والتحوّلات والاصطفافات التي تواكبه. تريد أنقرة الاستفادة من فرص ارتدادات الملف الأوكراني لمصلحة نفوذها ومصالحها الإقليمية في علاقاتها مع اللاعبين المؤثّرين. وتسعى في الوقت نفسه إلى التفاوض مع واشنطن وموسكو لأخذ ما تريده على جبهتَيْ شمال شرق وشمال غرب سوريا، وهما من المسائل الأكثر حساسيّة بالنسبة إليها.

3 – هناك بعد ذلك الاتصالات التركية الأميركية التي بدأت تأخذ منحى جديداً في ضوء انفجار الوضع في أوكرانيا وحاجة كلا البلدين إلى إعادة تقويم مواقفهما وسياساتهما حيال الطرف الآخر بما تقتضيه التحوّلات الإقليمية. أبرز ما قاد إلى التباعد بين أنقرة وواشنطن هي الملفّات الخلافية في سوريا والعراق، والاحتمال هو أن تدفع هذه الملفّات نفسها كلا الطرفين إلى مراجعة السياسات والذهاب نحو تفاهمات جديدة في شمال شرق سوريا تتحمّل “قسد” أعباء إنجازها.

4 – بين التطوّرات الأخيرة التي تعزّز طرح اقتراب موعد العملية العسكرية الجديدة في شرق الفرات، قرار تركيا الذي أعلنته قبل أيام والمتعلّق بإغلاق مجالها الجوّي أمام الطائرات العسكرية الروسية المتّجهة إلى سوريا. حتى لو كانت دلالات القرار رمزية أكثر من أن تكون من أجل تحديد موقف سياسي تركي جديد حيال موسكو، فإنّ الخطوة في النهاية عبارة عن رسالة تركيّة لروسيا تفيد بأنّ تحوّلات ستتمّ في مواقف أنقرة السورية وأنّها ستكون مرتبطة بتقارب تركي أميركي محتمل في الملفّ يتطلّب قراءة روسيّة جديدة أبعد من تكرار المواقف المعروفة.

بدأت تركيا منذ أكثر من عامين مراجعة سياستها الإقليمية التي تقوم على التهدئة والتصالح والتطبيع مع دول المنطقة، وهي تتقدّم بشكل أو بآخر وسط الصعاب والمطبّات

5 – هناك أيضاً الحديث عن تحوّل في سياسة تركيا السورية، وتحديداً في ملف اللجوء واحتمال انطلاق حوار تركي جديد مع النظام في دمشق قد يكون هدفه تحريك كلّ هذه الفرص والأوراق في سوريا لإنهاء أزمة مضى عليها أكثر من عقد وأضرّت بمصالح تركيا السياسية والاقتصادية والأمنيّة. في هذا السياق تنتظر أنقرة من موسكو دعم عمليّتها العسكرية في شرق الفرات.

6 – بالإضافة إلى تطوّر ميداني جديد في الآونة الأخيرة تمثّل في التصعيد الكردي الكردي الحاصل في شرق الفرات وإضرام النار في مكاتب ومراكز “المجلس الوطني” الكردي. هي رسالة متعدّدة الجوانب من قبل وحدات “قسد”، من بينها رفض التنسيق القائم بين أنقرة وإربيل من جهة، ورفض أيّة تفاهمات سياسية إقليمية على حسابها في شمال العراق وشرق الفرات من جهة ثانية. لكنّ تصريحات السفير الأميركي في دمشق التي أعرب فيها عن قلق بلاده من التصعيد الحاصل في شرق الفرات بين الفصائل الكردية قد تكون بمنزلة إشارة لأنقرة لتحريك القوات على جبهات شرق الفرات لدفع الأمور في الملفّ السوري نحو مسار تسويات وحلحلة إقليمية ودولية.

7 – حقيقة أخرى تتعلّق بوجود رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور البارزاني في أنقرة خلال انطلاق العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، وتوجّهه بعد ذلك إلى العاصمة البريطانية، وهي أبعد من أن تكون مسألة صدفة في التزامن والتحرّكات الجديدة المتسارعة. تسعى أنقرة إلى حماية مصالحها الإقليمية الاستراتيجية البعد في ملفّ نقل الطاقة العراقية عبر أراضيها إلى أوروبا، وتحديداً الغاز العراقي في الموصل. تدعم إربيل المشروع، وبغداد لن تصمد أمام أيّة ضغوطات غربية بهذا الصدد، خصوصاً إذا ما تمّ لعب الورقة الإيرانية ضدّها، أو تحرّكت واشنطن بالتنسيق مع تل أبيب للتصعيد أكثر فأكثر ضدّ طهران. وقد يكون الهدف التركي الأميركي الإسرائيلي دمج خطوط نقل الطاقة العراقية والإسرائيلية داخل الأراضي التركية تمهيداً لنقلها إلى أوروبا كبديل استراتيجي يسدّ احتياجات القارّة بعد قرار الابتعاد عن الغاز الروسي. التصريحات الأخيرة لمساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط جوي هوود عن ضرورة تطهير منطقة سنجار من المجموعات الإرهابية وفتح الطريق أمام تنسيق ثلاثي بين أنقرة وبغداد وإربيل في وضع خطط نقل الطاقة العراقية إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، ستُفسّر حتماً في أنقرة على أنّها دعم أميركي لتحرّك تركي عسكري واسع في شمال شرق سوريا. الغامض هو مواقف وردود فعل اللاعبين الإقليميين الآخرين المؤثّرين في الملف السوري، وفي مقدَّمهم موسكو والقاهرة، حيال سيناريو قد تدعمه بعض الدول العربية والغربية ما دام يعطيها ما تريد في لعبة التوازنات الجديدة.

تشير التقارير الاستخباراتية التركية إلى إنشاء 3 مخيّمات عسكرية جديدة لـ”قسد” على مقربة من الحدود التركية في تل رفعت وعين عيسى والحسكة، وأنّ الهدف هو إقامة نظام أمني في شرق الفرات مشابه للنظام القائم في مناطق قنديل وسنجار وزاب في شمال العراق. التحرّك التركي الأخير من خلال العمليات العسكرية الخاطفة ضدّ مواقع “قسد” وما واكبها من عمليات استخباراتية في المنطقة أسفرت عن اعتقال كوادر أساسية في حزب العمال ونقلها إلى تركيا، هو أيضاً رسالة تركيّة إلى إيران التي تحاول تجنيد مقاتلين في صفوف العشائر بهدف تأسيس مجلس عسكري بإشراف مستشارين إيرانيين لحماية المصالح الإيرانية في شمال وشرق سوريا. تطهير المناطق الحدودية مع شمال العراق وشمال سوريا ضرورة لا بدّ منها لتحقيق اختراق استراتيجي بهذا الاتجاه هدفه الأوّل هو إيران وتمدّدها في المنطقة.

 

هل تكون العملية التركية الأخيرة؟

نفّذت القوات التركية حتى اليوم 4 عمليات عسكرية واسعة في شمال سوريا لم تعطِها ما تريده في الشقّ المتعلّق بشرق الفرات. فهل تنجح هذه المرّة بالتفاهم مع واشنطن في إسقاط ورقة “قسد” أوّلاً، وفتح الطريق أمام مشروع المنطقة الآمنة التي تريد تفعيلها في إطار تفاهمات جديدة مع واشنطن وموسكو وتجمع مناطق من إدلب وتل رفعت ومنبج وعين عيسى وعين العرب ثانياً، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود تفاهمات روسية إسرائيلية تمّ كشف النقاب عنها العام المنصرم وتتعلّق بالعمل المشترك لإخراج إيران من سوريا؟

أعلن الرئيس رجب طيب إردوغان العام المنصرم، خلال العمليات العسكرية التركية في شمال العراق، أنّ أنقرة ستوسّع نطاق عملياتها العسكرية في المرحلة المقبلة ضدّ مسلّحي “حزب العمال الكردستاني” الذي يهدّد الأمن القومي التركي حيثما هو في سوريا والعراق. سارعت إيران إلى تحريك قوات “الحشد الشعبي” المحسوبة عليها نحو سنجار لمقاومة القوات التركية، لكنّ المواجهة لم تحصل. واشنطن هي التي تحول دون عملية عسكرية تركية واسعة في عمق شرق الفرات ضدّ مجموعات قسد. فهل تغيّر من مواقفها في ضوء لعبة التوازنات الإقليمية الجديدة المرتبطة بتطوّرات الملف الأوكراني والمصالحة التركية الإسرائيلية؟

بدأت تركيا منذ أكثر من عامين مراجعة سياستها الإقليمية التي تقوم على التهدئة والتصالح والتطبيع مع دول المنطقة، وهي تتقدّم بشكل أو بآخر وسط الصعاب والمطبّات. الأزمة في أوكرانيا تقدّم للجانبين التركي والأميركي الفرصة الذهبية لمراجعة العلاقات في ملفّات باعدت بينهما. الدعم المالي والعسكري الأميركي الذي لم يتوقّف لمجموعات “قسد” هو أهمّ نقاط الخلاف المعلنة، فهل تشعل واشنطن الضوء الأخضر أمام أنقرة لأخذ ما تريده في إطار سياسة سوريّة جديدة أوّل متطلّباتها بالنسبة إلى أنقرة هو حسم موضوع “قسد” في المعادلة السورية؟

إقرأ أيضاً: لماذا تقلق إيران من الانفتاح السعوديّ الباكستانيّ؟

لم تتوقّف جهود موسكو وطهران المبذولة من أجل نقل الحطب لتأجيج نار التوتّر التركي الأميركي في الأعوام الأخيرة، وهي لن تتوقّف في المرحلة المقبلة التي ستشهد تحوّلات إقليمية محتملة قد تُرسَم على حسابهما في سوريا والعراق وشرق المتوسط.

السؤال هو: هل تنجح جهود تمديد أنابيب المياه لإخماد الكثير من الحرائق الإقليمية المشتعلة قبل تمديد أنابيب نقل غاز المنطقة إلى أوروبا؟

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…