الحرب ليست قصصاً مصوّرة… بل هلع وكوابيس

مدة القراءة 4 د


يقول المثل “مَن يده في النار ليس كمن يده في الماء”. وأهل غزة أياديهم في النار. وهذه هي ليست المرّة الأولى التي تقع أياديهم في النار. كما أنّ الجزء الأكبر منهم يتألّف من لاجئين تقع أرضهم في فلسطين المحتلّة. لاجئون مثلهم في ذلك مثل أخوتهم المقيمين في سوريا والأردن ولبنان والعراق، غير أنّهم يقيمون على جزء آخر من فلسطين، جزء يُفترض به أن يكون حرّاً ومستقلّاً حسب القوانين الدولية. غير أنّ الواقع يقول غير ذلك. وهو ما فرضه المحتلّ الإسرائيلي حين وجد أنّ في إمكانه اختراق القوانين الدولية برضا عالمي.

بين ترف النظر وشظف العيش

أهل غزة الذين تصطلي أياديهم في النار يقولون عن معاناتهم في مواجهة المأساة التي يعيشون فصولها شيئاً مختلفاً عمّا يقوله الذين لا تزال أياديهم تسبح في الماء. ولست هنا أطبّق المثل الذي يقول “أهل مكّة أدرى بشعابها”، فقد نعرف نحن المقيمين في بيوتنا الآمنة بعيداً عن القصف اليومي أشياء كثيرة عن أسرار الحرب وما يضمره ويخطّط له طرفاها، وأيضاً مواقف الدول الكبرى السياسية وما يحدث في الكواليس، وحتى حقيقة المسافة التي تفصل بين الشكّ واليقين في مواقف الدول المعنيّة بالصراع أكثر من غيرها، أكثر ممّا يعرفون. ولكنّ المسألة لا يمكن اختصارها في ذلك الحيّز الضيّق الذي يفصل بين الترف والشظف.

ولأنّني جرّبت شخصياً أوضاعاً شبيهة بأوضاع أهل غزة في ظلّ حربين كارثيّتين تعرّض لهما العراق، أعرف ما الذي يعنيه أن يقيم المرء تحت القصف. يوم كان الآخرون يحلّلون من فوق ما يجري لنا، كنّا نقف حائرين في المسافة التي تفصل بين الضحك والبكاء. كنّا نضحك من بلاهة أولئك الآخرين، وفي الوقت نفسه كنّا نبكي من بلادتهم. حتّى أخوتنا كانوا أشبه بالغرباء. كانوا غرباء عن هلعنا وخوفنا وجوعنا وعطشنا وفزعنا وحرقتنا وعذاباتنا وآلامنا وخساراتنا وفقداننا وهزائمنا الروحية. على الأقلّ لم يكونوا مثلنا. كانوا بشراً آخرين.

مَن يصف الحرب من خارجها ليس كمَن يعيشها. وهو ما يجعلنا نخطئ في حقّ الضحايا ونحن نرغب في تقديم صورة مثالية عنهم للعالم كما لو أنّهم أبطال في القصص المصوّرة

الترويج للنصر لا يمنع القتل

أعرف شخصياً ما الذي يعنيه أن يكون المرء في غزة. أمّا الحديث عن الصمود والاستبسال والمقاومة والبطولة الاستثنائية فكلّه يقع خارج الشرط البشري، شرط الحياة الحقيقية التي يرغب الإنسان في أن يأخذ منها كفايته. لا تكفي نظرة نلقيها على الصور التي لا تحمل إلا شيئاً من معنى تبسيطي. لا يكفي الاستماع إلى صرخة يطلقها طفل أُخرج من تحت الأنقاض وهو لا يعرف من الذي أدخل الوحوش إلى حكايته. لا تكفي الهتافات بلغات لا يفهمها أهل غزة يعبّر أصحابها من خلالها عن تضامنهم معهم. ليس صحيحاً أنّ أهل غزة سيشعرون بالراحة حين يعرفون أنّ العالم غاضب ومستاء من أجلهم. كلّ هذا إن وصلهم، وأشكّ في ذلك، لن يمنع الموت من التقدّم إليهم.

لا يعني ذلك أنّني أستخفّ بما يقوم به شباب العالم وهو يسعى إلى إدانة حكوماته التي وقفت مع الهمجية الإسرائيلية، فكلّ مبادرة من ذلك النوع هي نوع من الواجب الإنساني الذي يعبّر عن دفاع الإنسان عن نفسه بالدرجة الأساس. ولكنّني أقف ضدّ الترويج الكاذب لفكرة أن يكون العالم قد انقلب رأساً على عقب بسبب المجازر الإسرائيلية، وأنّ الدول التي ساندت إسرائيل في عدوانها، وهي كثيرة، في طريقها إلى مراجعة مواقفها، وأنّ النصر قادم لا محالة بسبب صمود أهل غزة وبطولتهم الأسطورية. ما من أسطورة في غزة، بل هناك مدينة تقع تحت قصف أعمى لا يفرّق بين مدنيّ ومسلّح. إنّهم ضحايا همجية عنصرية لن تنفع المعنويّات العالية في التصدّي لآلة حربها. أعرف أنّ ذلك الكلام لا يعجب الكثيرين ممَّن أياديهم في الماء، لكنّني أتكلّم بلسان الضحايا الحاليّين لأنّني ضحيّة سابقة.

إقرأ أيضاً: الدولة الفاشلة.. قدر عربيّ؟

الموت المؤجّل بالصدفة

صحيح أنّني لا أشبه مَن خطفت الحرب حياته، غير أنّ الصحيح أيضاً أنّني شاركته هلعه حين كان القصف لا يصطادنا بالأسماء. كان هناك مَن يرغب في أن نكون كلّنا أمواتاً، لكنّ القدر شاء أن أخرج حيّاً من حربين. الصدفة وحدها جعلتني أغادر في إجازة حجابات عبادان عام 1982 فحدث انهيار الجيش العراقي في شرق البصرة واختفت كتيبتي. ماذا يعني ذلك؟

مَن يصف الحرب من خارجها ليس كمَن يعيشها. وهو ما يجعلنا نخطئ في حقّ الضحايا ونحن نرغب في تقديم صورة مثالية عنهم للعالم كما لو أنّهم أبطال في القصص المصوّرة. هناك شيء مضلّل في ما نقوله. ليست الحرب هتافات وتظاهرات واعتصامات ومعارض فنّية وتبرّعات وأدعية ونداءات. الحرب هي قتل ودمار وتشريد وفزع وفقدان وهلع وكوابيس لا نهاية لها.   

مواضيع ذات صلة

عودة “روكي”: جنون أميركا في ظلّ ترامب

كان هناك وقتٌ، في الزمان غير البعيد، حيث الانتخابات الأميركية كانت تُحكم بالمبادئ: كانت هناك برامج انتخابية، قيم، واحترام للمنصب. ثمّ جاءت سنة 2024، وقرّرت…

قوافل النّازحين… وفكرة “السّلام” المُلتبس

منذ 17 أيلول الماضي يوم شرعت إسرائيل في حربها ضدّ الحزب عبر تفجير أجهزة البيجرز والتوكي ووكي، بدأ النزوح الداخلي من جنوب لبنان وضاحية بيروت…

الكويت: تأكيد الهوية الوطنية لأهلها فقط..

على الرغم من الضجيج في المنطقة وأصداء أصوات الانتخابات الأميركية وما سبقها وتلاها، لا صوت يعلو في الكويت على صوت “تعديل التركيبة السكاّنية”، من خلال…

السّودان: إيران وروسيا تريدان قواعد عسكريّة

يغطّي غبار القصف الإسرائيلي على غزة ولبنان صور المأساة المروّعة التي تعصف بالسودان، أكبر دولة عربية من حيث المساحة. فقد اضطرّ حتى الآن خُمس السكان،…