من “الجنجويد” إلى “الدّعم السّريع”.. ميليشيا ابتلعت دولة

مدة القراءة 7 د

في بلدٍ أنهكته الحروب والانقلابات، تتجسّد مأساة السودان الحديثة في حكايةِ ميليشيا تحوّلت إلى دولةٍ داخل الدولة. فمن رمالِ دارفور القاحلة خرجت، قبل أكثر من عقدين، نواة جماعات مسلّحة عُرفت باسم “الجنجويد”، لتتحوّل اليوم إلى “قوّات الدعم السريع”، الكيان العسكريّ الذي ينازعُ الجيش والسلطة معاً على الشرعيّة والسيادة.

 

 

لا يوجد تفسيرٌ متّفَقٌ عليه لكلمة “الجنجويد”. فقد جعلها بعضُهم اسماً منحوتاً من عبارة “جنّ على جواد”، وجعلها آخرون من ثلاث كلمات تبدأ كلّها بحرف الجيم هي: “جنّ، وجواد، وجي 3″، في حين ربطها فريقٌ ثالثٌ بسفّاحٍ من عرب دارفور يُدعى حامد جنجويت، عُرف بالفظائع التي مارسها ضدّ قرى الأفارقة. باختصار، هي جماعةٌ مسلّحةٌ ظهرت في إقليم دارفور، وخرجت من رحم الصراعات القبليّة وضعف الدولة المركزيّة، لتصير رمزاً لعنفٍ لا يعرف حدوداً.

بحلول عام 2003، ومع اندلاع تمرّد الحركات الدارفوريّة المنحدرة من قبائل “الفور” و”الزغاوة” و”المساليت” ذات الأصول الإفريقيّة، بلغ الصراعُ ذروته. وردّت الحكومةُ بتسليح قبائل “الرزيقات” و”الأبالة” وغيرهم من العرب الرحّل. كانت الذريعةُ المعلنة حمايةَ القرى والمواشي وطرق التجارة، لكنّ الهدف الحقيقي كان تحويل القبائل العربية إلى أذرعٍ قتاليّةٍ مواليةٍ للجيش النظاميّ. وأدّى ذلك إلى اشتعال حربٍ إثنيّةٍ مفتوحةٍ تتداخل فيها المطالب السياسيّة مع الصراع على الموارد والأرض والماء، في إقليم أنهكه الجفاف والتهميش. وانقسمت دارفور بين عرب و”زرقة” (أي أفارقة)، وتحوّل الصراع السياسيّ إلى معركة وجوديّة على الهويّة والانتماء.

مع مرور الزمن، تضخّمت هذه الميليشيات وارتبط وجودها بموازين القوى داخل النظام، إلى أن تحوّلت في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير إلى ركيزة أمنيّة لحمايته من خصومه، بدلاً من أن تكون أداةً لحماية الدولة ذاتها، قبل أن تنتهي قوّةً منافسةً للحكومة والحكومات التي خلفتها باسم “قوّات الدعم السريع”.

في بلدٍ أنهكته الحروب والانقلابات، تتجسّد مأساة السودان الحديثة في حكايةِ ميليشيا تحوّلت إلى دولةٍ داخل الدولة

حميدتّي… من تاجر ماشية إلى رجل دولة

في ذروة الصراع الدارفوريّ، كانت حكومة البشير في أمسّ الحاجة إلى حشد القبائل خلف “الجنجويد” في مواجهة الحركات المتمرّدة، فوجدت ضالّتها في محمد حمدان محمد دقلو، الملقّب بحميدتّي، تاجر ماشية ينفق من ثروة كبيرة جمعها من التهريب وحماية القوافل على عصابته الخاصّة التي تحوّلت إلى ميليشيا. رجلٌ ينتمي إلى عشيرة “الماهريّة”، أحد بطون قبيلة “الرزيقات” العربيّة، خصوم القبائل الإفريقيّة. وهو أيضاً ابن عمّ موسى هلال، زعيم عشيرة “المحاميد”، أحد فروع قبيلة “الرزيقات”، وزعيم “الجنجويد”، قبل أن ينقلب عليه حميدتّي، ويُطيحه ويجرّه إلى المحاكم بتهم ارتكاب جرائم حرب، ويُجرّده من منجم ذهبٍ كان يملكه. واغتنم تاجر الماشية حاجةَ الحكومة إلى مجموعته، فعمل على “قوننة” وضع “جنوده”، ونجح في ذلك بعد زيارةٍ للخرطوم، حيث تلقّف الجيش فكرة وجود قوّات مساندة له باستحسان.

قال حميدتّي، في فيلم وثائقيّ عنه عام 2008، إنّ عمر البشير طلب منه مساعدة النظام في حربه ضدّ المتمرّدين، وإنّه تلقّى مالاً من البشير ووعداً بالصرف على “الجنجويد” بسخاء، لكنّ البشير نكث بوعده، وهو ما دفع حميدتّي إلى التهديد برفض الأوامر، فاستجاب البشير صاغراً، وقبِل بتسمية الميليشيا “قوّات الدعم السريع”، وضمّها إلى القوّات المسلّحة، وجرت ترقية قائدها الشابّ إلى رتبة عميد، ثمّ لواء، ثمّ فريق، ثمّ فريق أوّل، في فترةٍ وجيزةٍ تجاوزت كلّ الأعراف العسكريّة.

لم يكتفِ حميدتّي بالانقلاب على ابن عمّه موسى هلال، بل أكمل مسيرته بالانقلاب على البشير، حين قفز من مركب نظامه الغارق وتركه يسقط على نار ثورة الشباب. ثمّ انقلب أيضاً على قائد الجيش عبدالفتّاح البرهان، رفيق السلاح في حرب دارفور، وشريكه في الثورة ضدّ البشير ثمّ في الثورة المضادّة، ثمّ في المجلس الانتقاليّ السياديّ.

في ذروة الصراع الدارفوريّ، كانت حكومة البشير في أمسّ الحاجة إلى حشد القبائل خلف “الجنجويد” في مواجهة الحركات المتمرّدة، فوجدت ضالّتها في محمد حمدان محمد دقلو، الملقّب بحميدتّي

دولة موازية بذهَبها وسلاحها

لطالما تمتّعت قوّات حميدتّي بامتيازاتٍ تفوق امتيازات القوّات المسلّحة السودانيّة، عتاداً ومالاً وتجهيزاً. واستطاعت تنويع مصادر دخلها عقب انخراطها في حرب اليمن، وحصول أفرادها على الأموال نقداً من دون المرور بمؤسّسات الدولة. وكشف حميدتّي عن تمويل “الدعم السريع” لنفسها من خلال مشاريع استثماريّة منفصلة عن جهاز الدولة، مشيراً إلى إنشاء شركةٍ لتعدين الذهب في جبل عامر.

تؤكّد تقارير عدّة أنّ هذه القوّات تُموّل أيضاً نفسها بأنشطةٍ خارجةٍ عن القانون، مثل تجارة المخدّرات والتهريب والاتّجار بالبشر، علاوةً على انتزاع الأراضي الزراعيّة الخصبة من مالكيها الأصليّين في دارفور واستغلالها في أنشطةٍ زراعيّةٍ واستثماريّة. وليس خافياً أنّ “دقلو” كانت له مشاركةٌ واسعة في الحرب الليبيّة عبر تقديم الدعم المباشر للّواء خليفة حفتر، الذي سعى دائماً إلى ردّ الجميل لصديقه السودانيّ.

لقد جسّد صعود “قوّات الدعم السريع” في السودان مساراً فريداً لتحوُّل الميليشيات من ذراعٍ أمنيّةٍ هامشيّةٍ إلى كيانٍ شبه دولتيّ ينازع الدولة المركزيّة سلطتها وشرعيّتها. فهذه القوّة، التي وُلدت من رحم الصراع في دارفور، تطوّرت عبر عقدين إلى منظومةٍ عسكريّةٍ – اقتصاديّةٍ ذات هرمٍ قياديٍّ متماسك، تتجاوز في قدراتها بعض مؤسّسات الدولة الرسميّة.

شبكات متشابكة ومصالح متناقضة

ليس حميدتّي مؤدلجاً، ولا صاحبَ رؤية، ولا يستند إلى أيّ تيّارٍ فكريٍّ أو سياسيٍّ، ولم يُعرف بحنكته السياسيّة. لكنّه غامضٌ ومُحيّر، لا يعرف الوفاء، ويتقن فنّ القفز عن الحواجز. لديه وفرةٌ من “البضاعة والوعود” لبيعها لكلّ صاحب مصلحةٍ في السودان وخارجه، أيّاً تكن هويّته.

يبيع القوى المدنيّة وعوداً، ويبيع الروس الذهب الذي صار بديلهم عن العملات الصعبة في حربهم الضروس مع الغرب. ويبيع إسرائيل ما يطمئنها إلى أنّه الراعي الصالح للتطبيع مع السودان، وأنّ حربه مع البرهان نسخةٌ عن حربها ضدّ الفلسطينيّين. يبيع الاتّحاد الأوروبيّ وهماً بأنّ قوّاته المولجة حراسة الحدود تحدّ من هجرة الأفارقة إلى قارّتهم، فيكسب المساعدات والهبات، فيما يستمرّ تدفّق المهاجرين إلى أوروبا.

يخشى المواجهة المباشرة مع مصر، لكنّه يفتح قنواتِ تواصلٍ مع ندّها الإثيوبيّ، فيُمسكها من اليد التي توجعها. ويبيع دولةَ الإمارات شعار محاربة “الإخوان”، ويغريها بجبال الذهب، ويتلقّى في المقابل فيضاً من الدعم المادّي والمعنوي والسلاح. حتماً، لديه بضاعةٌ ما ليبيعها للأميركيّين والصينيّين معاً، فهو وحده في السودان القادر على جمع الأضداد والمتناقضات… والبيع والشراء.

 إقرأ أيضاً: سقوط الفاشر: طوق جديد لمصر؟

دارفور من جديد… قلب المأساة

اليوم، وفي ظلّ الحرب السودانيّة المشتعلة منذ عامين ونصف عام، تتجسّد هذه المسيرة الدمويّة في أفظع صورها، من الفاشر، المدينة التي كانت يوماً رمزاً للسلطنة والإرث الدارفوريّ، إلى مجازرها الأخيرة التي جعلت اسمها مرادفاً للمأساة والخراب.

ما بين “الجنجويد” و”الدعم السريع”، تتفكّك البنية المركزيّةُ للدولة السودانيّة، وتتآكل مؤسّساتُها الأمنيّةُ والمدنيّة على السواء. ومع استمرار الحرب وتراجع سلطة الجيش، تبدو دارفور على وشك التحوُّل إلى نواة كيان سياسيّ موازٍ، تحكمه قوّةٌ تملك الأرض والسلاح والشرعيّة القبليّة. وهكذا لا تغدو قوّات الدعم السريع فاعلاً عسكريّاً وحسب، بل مشروع لمؤسّسة بديلة تتغذّى على أنقاض الدولة الأمّ، في مشهدٍ يختزل مأساة السودان الحديثة وانهيار فكرة المركز ذاتها.

مواضيع ذات صلة

تصويت مجلس الأمن وزيارة الأمير

ستتضح أمورٌ هامةٌ يترقبها العالم باهتمام بالغ، من خلال حدثين بارزين، الأول تصويت مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي بشأن غزة وما بعدها، والثاني ما…

متى تستقر سورية في مواجهة المخاطر الكبرى؟

توجّه الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة حيث التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومسؤولين آخرين، وخرج باتفاقٍ حول مكافحة الإرهاب. وفيما كان بنيامين نتنياهو…

سحبُ السّلاح جنوباً سيخضع للتّدقيق الدّوليّ؟

خلص المسؤولون اللبنانيّون، استناداً إلى ما سمعوه من الموفدين الذين توافدوا إلى بيروت، إلى أنّ إسرائيل لن توسّع حربها على لبنان قبل 31 كانون الأوّل…

واشنطن تعيد صياغة مقاربتها السّودانيّة؟

هل كان انفصال جنوب السودان حتميّاً أم غياب قادة بارزين مثل جون غارانغ مهّد الطريق لذلك؟ وكيف لعبت التدخّلات الإقليميّة والدوليّة دوراً في فرض واقع…